للهجرة سوى يحيى بن الحكم الغزال شاعر الأمير عبد الرحمن الثاني "٢٠٦- ٢٣٨هـ" وقد سفر بينه وبين أمراء أوربا وقدم في بعض هذه السفارات على أحد أمراء النورمان في جزائر الدانمارك، وأثبت ابن دحية بعض أشعاره في "المطرب" وهي أشعار جيدة. وأهم منه ابن عبد ربه صاحب كتاب "العقد الفريد" المتوفى عام ٣٢٨ للهجرة، فقد تعلق بصنع الشعر وترك فيه ديوانًا لم يصلنا؛ غير أن ما نقله ياقوت وابن خلِّكان عنه يدل على أنه متكلف في شعره كقوله:
يا ذا الذي خط العذارُ بوجهِِهِ ... خطين هاجا لوعةً وبلابلا
ما صح عندي أن لحظك صارمٌ ... حتى لبست بعارضيكَ حَمَائلا
وواضح في هذا التصوير من تكلف إذا وصف اللحظ بالسيف الصارم، وكان التشبيه حتى الآن طبيعيًّا؛ ولكنه أراد أن يبعد فزاد تلك البقية التي تجعل العذارين حمائل للسيف، أرأيت إلى هذا البعد في الخيال وهذا التكلف؟ ومع ذلك فقد كان لابن عبد ربه قطع أخرى لا يبدو فيها هذا التكلف الشديد كقوله:
وبدت لي فأشرقَ الصبحُ منها ... بين تلك الجيوبِ والأطواقِ
يا سقيمَ الجفونِ من غيرِ سَقَمٍ ... بين عينيك مصرعُ العشَّاقِ
إن يوم الفراقِ أفظعُ يوم ... ليتني مت قبل يومِ الفِراقِ
وله قطع أخرى أكثر من هذه رقة وسهولة. ولعله من المهم أن نعرف أن الشعر الأندلسي يفقد الوحدة منذ ابن عبد ربه؛ إذ نجد الشاعر الواحد يتكلف في قطعة ويخفف من تكلفه في أخرى، فتحار أهو من مذهب الصانعين أم هو من مذهب المتصنعين أم هو من مذهب المصنعين، فقطعة فيها صنعة وثانية فيها تصنُّع وثالثة فيها تصنيع على غير نظام أو نسق معين.
ولذلك كان الباحث يضطرب في الحكم على الشارع الأندلسي؛ فبينما يحكم عليه بأنه من ذوق الصانعين إذا به يجد عنده نموذجًا من ذوق المصنعين أو المتصنعين، وكذلك الأمر إن هو حكم عليه بأحد الذوقين الآخرين. وقد يكون من أسباب ذلك أن هذه المذاهب كانت تتفارق في المشرق مفارق واضحة، إذ توجد مع التطور في الحياة والحضارة، فالصانعون يسبقون المصنعين ويأتي