للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ونراه ينفذ مثله في الرثاء إلى ذم الدهر والشكوى من الحياة كقوله في رثاء غلام١:

وهب الدهر نفيسًا فاسترد ... ربما جادَ بخيلٌ فحسدْ

كلما أعطَى فوفَّى حاجةً ... بيدٍ شيئًا تلقَّاه بيدْ

خاب من يرجو زمانًا دائمًا ... تعرف البأساءَ منه والنكدْ

فإذا ما كدَّر العيش نَمَا ... وإذا ما طيب الزاد نفدْ

وعلى هذا النحو كان يقتدي بالمتنبي تارة، ويقتدي بالمصنعين تارة أخرى؛ فهو لا يثبت عند مذهب بعينه. ونستطيع أن نسلك في اقتدائه بالمتنبي عنايته في شعره بالغريب والقوافي الشاذة فهو ينظم على الثاء والخاء ونحوهما من الحروف الصعبة حتى يثبت تفوقه. وإذا كنا لاحظنا في غير هذا الموضع على المتصنعين أنهم كانوا إذا عمدوا إلى التصنيع لفوا ولفقوا فإننا نلاحظ ذلك نفسه عند ابن هانئ، إذ كان يأتي المعاني والأخيلة من بعيد، وكان يستر ذلك بما تعوده من ضخامة التعبير. روى الرواة أن أبا العلاء كان إذا سمع شعره يقول: ما أشبِّهه إلا برحىً تطحن قرونًا لأجل القعقعة التي في ألفاظه، ويزعم أنه لا طائل تحت تلك الألفاظ٢. وما هذه القعقعة وما يندرج فيها من عدم الطائل والفائدة إلا ما نشير إليه من طنطنته بالألفاظ والأساليب الضخمة، فإذا ما بحثنا هذه الأساليب لم نجد شيئًا غير التلفيق واللف وإتيان المعنى من بعيد، ولعل ذلك ما جعل ابن رشيق يقول عنه: "وفرقةٌ أصحاب جلبة وقعقعة بلا طائل معنى إلا القليل النادر كأبي القاسم بن هانئ ومن جرى مجراه فإنه يقول أول مذهبته:

أصاخت فقالتْ وقعُ أجردشيظَمِ ... وشامت، فقالت: لمع أبيض مخذمِ٣

وما ذعرت إلا بجرسِ حُلِيِّها ... ولا رمقت إلا بُرى في مخدَّمِ٤

وليس تحت هذا كله إلا الفساد وخلاف المراد، ما الذي يفيدنا أن تكون


١ الديوان ص٢٤٥.
٢ وَفَيَات الأعيان ٢/ ٥.
٣ أصاخت: أرهفت السمع. الأجرد: من صفات الخيل الكريمة. الشيظم: الطويل القوي من الخيل. شام البرق: نظر إليه. والأبيض: السيف. والمخذم: القاطع.
٤ جرس: صوت. رمق الشيء: لحظه لحظًا خفيفًا. برى: جمع بره، وهي هنا الخلخال. المخدم: موضع الخلخال.

<<  <   >  >>