للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عليها أو يتنزهان فيها، ومعنى ذلك أن شعره يفيض بالعواطف ويكتظ بالشعور، ولعله من أجل ذلك كان يسميه النقاد باسم: بحتري الأندلس، فذوقه أقرب إلى ذوق البحتري؛ إذ يطلب في شعره أن يعبر عن خواطره في حرية دون تقييد بضروب التصنيع أو التصنع؛ غير أنه ينبغي أن نقيد هذا الكلام؛ لأن من يتتبع ابن زيدون في ديوانه يجده كبقية الشعراء الأندلسيين يخلط بين مذاهب العباسيين من صنعة وتصنيع وتصنع في غير طريقة مرسومة ولا خطة موضوعة. ومرَّ بنا أن أهم قصائده وهي"بنتم وبنَّا" قد صنعها على نمط قصيدة للبحتري، وهو في قصائده الأخرى لا يزال يعيش هذه المعيشة التقليدية، واقرأ له هذه القطعة المشهورة:

ما على ظَنِّيَ باسُ ... يَجْرحُ الدهرُ وياسُو

ربما أشرفَ بالمرءِ ... على الآمالِ ياسُ

ولقد ينجيك إغفا ... ل ويرديك احتراسُ

والمحاذيرُ سهامٌ ... والمقاديرُ قياسُ١

يا أبا حفصٍ وما سا ... واك في فهمِ إياسُ٢

من سنا رأيك لي في ... ظلمِ الخطبِ اقتباسُ٣

وودادي لك نصٌّ ... لم يخالفه القياسُ

فإنك تراه يصنع إذ يطابق بين يجرح ويأسو، كما يجانس بين يأسو في البيت الأول ويأس في البيت الثاني، وهو كذلك يتصنع لذكر النص والقياس والاقتباس. فحتى النموذج الواحد فيه خلط بين المذاهب؛ فالشاعر تارة يصنع وتارة يتصنع، ومع ذلك فهذه القطعة قريبة من ذوق الصانعين بما اشتملت عليه من حسن جرس وإيقاع!

وإذا تركنا هذا المظهر العام في شعره من الخلط بين المذاهب الفنية العباسية إلى تتبع معانيه وأخيلته وأساليبه وجدنا صورتها العامة هي الصورة العباسية وقد


١ قياس هنا: جمع قوس.
٢ هو إياس بن معاوية، من قضاة العراق في العصر الأموي، وكان يشتهر بالذكاء وحدة الفهم.
٣ سنا: ضوء.

<<  <   >  >>