للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بينها مزجًا طريفًا، وانظر إليه يصف سراه بالليل:

بَعَيشِكَ هَل تَدري أَهوجُ الجَنائِبِ ... تَخُبُّ بِرَحلي أَم ظُهورُ النجائِبِ

فَما لُحْتُ في أولى المَشارِقِ كَوكَبًا ... فَأَشرَقتُ حَتّى جِئتُ أُخرى المَغارِبِ

وَحيدًا تَهاداني الفَيافي فَأَجتَلي ... وَجوهَ المَنايا في قِناعِ الغَياهِبِ

وَلا جارَ إِلّا مِن حُسامٍ مُصَمَّمٍ ... وَلا دارَ إِلّا في قُتودِ الرَّكائِبِ

وَلا أُنسَ إِلّا أَن أُضاحِكَ ساعَةً ... ثُغورَ الأَماني في وُجوهِ المَطالِبِ

وَلَيلٍ إِذا ما قُلتُ قَد بادَ فَانقَضى ... تَكَشَّفَ عَن وَعدٍ مِنَ الظَنِّ كاذِبِ

سَحَبتُ الدَّياجي فيهِ سودَ ذَوائِبٍ ... لِأَعتَنِقَ الآمالَ بيضَ تَرائِبِ

فَخَرَّقت جَيبَ اللَّيلِ عَن شَخصِ أَطلَس ... تَطَلَّعَ وَضّاحَ المَضاحِكِ قاطِبِ

فإن أبصارنا تغرق في هذه الكثرة من المناظر والصور، وهي كثرة قد تعب ابن خفاجة في توفيرها حتى يحاكي بها أبا تمام وغيره من شعراء الطبيعة في المشرق، وارجع إلى البيت الأخير؛ فإنك تراه يعبر عن غبش الفجر الذي تختلط فيه أشعة النهار بظلام الليل بهذا الشخص المتنافر في الصورة؛ فهو يضحك ويقطب في آن واحد، وهي صورة طريفة.

والواقع أن ابن خفاجة كان يعنى بكثرة الصور في شعره، حتى لتكاد بعض أبياته أن لا تفهم من كثرة ما يودع فيها من أخيلة واستعارات، ولعل ذلك ما جعل ابن خلدون يقول عنه: "كان شيوخنا -رحمهم الله- يعيبون شعر أبي بكر ابن خفاجة شاعر شرقي الأندلس لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد"١.

وكنَّى ابن خلدون عن ابن خفاجة بأبي بكر وكنيته المشهورة أبو إسحاق، ويظهر أن ذلك سهو منه؛ فلسنا نعرف شاعرًا مشهورًا بشرقي الأندلس يسمى ابن خفاجة غير صاحبنا. فأما ازدحام المعاني فيقصد به -كما قلنا- ازدحام الصورة في شعره. على أنه لم يكن يكتفي بالصور بل كان يضيف إليها الألوان الأخرى من الجناس والطباق، وكان ما يزال يعنى في شعره أن يكون فياضًا


١ المقدمة "طبع بولاق" ص٥٧١.

<<  <   >  >>