للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ضرب من الحرية في صناعة المقطوعة، أوجدته ظروف إنشاد المغنِّين مع الجوقات للشعر، ونحن لا يمكن أن نعتد بهذا الجانب كمذهب جديد في الشعر العربي؛ إلا إذا كنا ممن يؤمنون بالشكليات ويتخذونها أصولًا للمذاهب الفنية.

والحق أن شخصية الأندلس في الشعر العربي لم تكن قوية، ومع ذلك فإنها استطاعت أن تحدث شيئًا جديدًا في الشعر إلى حد ما يتجاوب مع بيئتها وما كان فيها من ترف ولذة ونعيم، وهو هذه الموشحات والأزجال التي تعبر عن موجة واسعة من الغناء والموسيقى، وقد نشأت هذه الموجة مع زرياب وغيره من مغني المشرق١ ومغنياته من أمثال فضل وعلم وقلم وقمر والعجفاء٢. فشاع الغناء وشاعت الموسيقى وكثر المغنون والمغنيات وظهرت الجوقات المختلفة، واتصل ذلك كله بالشعب وأعياده، بل يظهر أنه اتصل بحياته دائمًا في عيد وغير عيد، حتى لنجد التجيبي يقول: "كنت بمدينة مالقة من بلاد الأندلس سنة ست وأربعمائة؛ فاعتللت بها مديدة انقطعت فيها عن التصرف ولزمت المنزل، وكان يمرضني حينئذ رفيقان كانا معي، يلمان من شعثي ويرفقان بي، وكنت إذا جن الليل اشتدَّ سهري وخفقَتْ حولي أوتار العيدان والطنابير والمعازف من كل ناحية، واختلطت الأصوات بالغناء فكان ذلك شديدًا علي، وزائدًا في قلقي وتألمي؛ فكانت نفسي تعاف تلك الضروب طبعًا وتكره تلك الأصوات جبلَّة وأود لو أجد مسكنًا لا أسمع فيه شيئًا من ذلك ويتعذر علي وجوده لغلبة ذلك الشأن على أهل تلك الناحية وكثرته عندهم"٣، ويستمر التجيبي فيصف لنا حفلًا غنائيًّا رآه في بستان لدار كبيرة، وقد اصطفَّ شَرْب ونحو من عشرين رجلًا وبين أيديهم شراب وفاكهة وجوارٍ قيام بعيدان وطنابير وآلات لهوٍ ومزامير وجارية جالسة تضرب على عودها.

وتحت تأثير هذه الموجة العنيفة من الغناء والموسيقى والجوقات وبتأثيرات مختلفة من البيئة المحلية ازدهرت الموشحات، "وكان المخترع لها مقدم بن معافى القبري


١ نفح الطيب ٢/ ٨٥٣.
٢ نفح الطيب ٢/ ٧٥٨.
٣ المختار من شعر بشار وشرحه: للتجيبي ص١٤.

<<  <   >  >>