للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيه إعرابًا واستحدثوا فنًّا سموه بالزجل، التزموا النظم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد؛ فجاءوا فيه بالغرائب، واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة. وأول من أبدع هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قُزْمَان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس لكن لم تظهر حلاها ولا انسبكت معانيها ولا اشتهرت رشاقتها إلا في زمانه، وكان لعهد الملثمين "توفي عام ٥٥٥هـ". قال ابن سعيد: رأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب"١. وينبغي أن نلقى كلام ابن خلدون في نشأة الزَّجل وتأخر هذه النشأة عن نشأة فن التوشيح بشيء من الحذر؛ فقد رأينا الموشح نفسه يُبْنَى في أول أمره -كما يقول ابن بسام- على بعض الكلمات الأعجمية. فالمعقول أن يكون الزجل قد نشأ معه مباشرة، وربما سبقه. ويمكن أن نقول إنهما جميعًا فن واحد ذو شعبتين، شعبة تغلب عليها الفصاحة، وشعبة تغلب عليها العجمة. وذكر ابن قزمان في مقدمة ديوانه أن أشهر من سبقوه أخطل بن نمارة، وهو يبدأ مقدمته بقوله: "ولما اتسع في طريق الزجل باعي وانقادت لغريبه طباعي، وصارت الأئمة فيه خولي وأتباعي وحصلت منه على مقدار لم يحصله معي زجال، وقويت فيه قوة نقلتها الرجال عن الرجال، عندما أبنت أصوله، وتبينت منه فصوله، وصعبت على الأغلف الطبع وصوله، وصفيته عن العقد التي تشينه وسهلته حتى لَانَ ملمسه ورقَّ خشينه، وعريته من الإعراب والاصطلاحات تجريد السيف عن القراب". ونرى ابن قزمان يتلوَّم بعد ذلك الزجالين الذين سبقوه لما عندهم من "معانٍ باردة وأغراض شاردة، وألفاظ شياطينها غير ماردة" ثم لما عندهم من "إعراب هو أقبح ما يكون في الزَّجل، وأثقل من إقبال الأجل"٢ وكأن الزَّجل في نشأته كان أقرب إلى الموشحة منه إلى الصورة العامية الخالصة التي انتهى إليها عند ابن قزمان، وانتقل هذا الرجل -كما انتقلت الموشحات- إلى المشرق


١ مقدمة ابن خلدون "طبع المطبعة البهية" ص٤٤١.
٢ انظر مقدمة ديوان ابن قزمان "مصورة" بمكتبة جامعة القاهرة.

<<  <   >  >>