للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتفسير القرآن بخلاف أهل المشرق الذين استوفوا هممهم الشامخة في تحصيل العلوم العقلية والمنطق١.

ولعل فيما قدمنا ما يدل على أن مصر في العصور الإسلامية السابقة لم تكن تشق على نفسها في الحياة العقلية، وقد يكون من أسباب ذلك ودوافعه ما عرف عن أهلها حينئذ من اللهو والدعة٢، فإن ذلك جعلهم لا يميلون إلى العمق والتقصي والتحليل، وإذا رجعنا إلى حياتهم الأدبية وجدناها تمثِّل تمثيلا واضحًا اللين والدعة وما ينساق فيهما. على أنه ينبغي أن نحمد لهم داخل حياتهم الأدبية وخاصة حياة الشعر أنهم صوروا لنا حياتهم السياسية إذ يمتلئ كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين" لأبي شامة بشعر كثير قيل في وصف المعارك والوقائع مع الصليبيين في الحكمين الفاطمي والأيوبي. ومعنى ذلك أن الشعب المصري لم يقصِّر في وصف الحوادث السياسية الكبيرة التي مرت به، وهو كذلك لم يقصر في وصف بيئته وطبيعة بلاده، وما انبث في وديانها وعلى ضفاف نيلها من زروع وجنات وعيون. وما أراني أبالغ إذا قلت: إن المادة التي تركتها مصر في شعر الطبيعة لا تختلف كثيرًا عن المادة التي تركتها الأندلس، فقد تغنى الشعراء كثيرًا بمشاهد مصر ومناظرها الجميلة. وكما مثَّل الشعر المصري بيئة بلاده وحياتها السياسية -من بعض الوجوه- كذلك مثل حياتها الدينية إذ نرى موجة من الزهد والتصوف تشيع في العصرين الفاطمي والأيوبي، وقد مثلها ابن الكيزاني في العصر الفاطمي بما كان له من شعر في التصوف والزهد، ثم مثلها في العصر الأيوبي ابن الفارض بديوانه الضخم المعروف، الذي يستغرقه جميعه بالتصوف والحب الإلهي.

وجانب آخر مثَّله الشعر المصري في العصور الإسلامية تمثيلا دقيقًا، وهو ميل المصريين إلى الفكاهة والدعابة، فمنذ شاع بينهم الشعر نجد شعراءهم يشتهرون بخفة الروح والتندر، يسجل ذلك صاحب المغرب على الجمل الأكبر شاعر أحمد بن طولون، كما يسجله على الجمل الأصغر الذي "كان ينحو في


١ عروس الأفراح: للسبكي ١/ ٥.
٢ خطط المقريزي ١/ ٤٩

<<  <   >  >>