للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الظرافة والتطايب منحى الجمل الأكبر"١، وكذلك يسجله سعيد المعروف باسم قاضي البقر شاعر الإخشيد، فقد زاد اختصاصه عنده "بما كان فيه من الحلاوة والتندير والهزل"٢. ومن ألقاب هؤلاء الشعراء أنفسهم -التي نُبِزوا بها- ما يدل على الروح المصرية التي نعرفها والتي تميل إلى الفكاهة والدعابة والنكتة. ومن يرجع إلى الخريدة -وهي تختص بالشعر الفاطمي- يجد فيها شاعرًا يُنْبَزُ باسم النسناس، وثانيًا باسم شلعلع، وثالثًا باسم الوضيع ورابعًا باسم الكاسات، وخامسًا باسم ابن مكنسة.

وهكذا نجد روح مصر الحديثة التي تعرف بميلها إلى الفكاهة تطل علينا من بين سطور الشعر المصري القديم بل من ألقاب الشعراء أنفسهم. وسنقف وقفة طويلة عند الفاطميين لنوضح هذه النزعة ونصورها تصويرًا بينًا، ومهما يكن فإن مصر واضحة الشخصية في تاريخ الشعر العربي الإقليمي، وسنرى حينما نتعمق في درسها ودرس شعرائها أنه خليق بنا -منذ الآن- أن نعنى بها وبشعرها لا من حيث وطنيتنا بل من حيث الحقائق الفنية الخالصة، على أنه ينبغي أن لا يعزب عنا ما قلناه في الأندلس مرارًا من أن شعراء الأقاليم العربية حافظوا على الأوضاع والتقاليد الفنية القديمة محافظة شديدة تكاد تُلغي كل ما كنا نتصوره عندهم من تجديد أو ثورة على التقاليد، إذ لم تكن تقوم -في هذه العصور- أسوار فاصلة بين إقليم عربي وإقليم أو بين وطن ووطن. وحقًّا إنه وجدت هناك آداب إقليمية، ولكن ينبغي أن لا نبالغ في صورة هذه الآداب وما كان بينها من تغاير. هي تتغاير حقًّا، ولكن تغاير الفروع والأغصان في الشجرة الواحدة لا تغاير الأجناس والأنواع في الأشجار.

والواقع أن تأثر الشعر العربي بالأقاليم لم يخرج إلى صورة واسعة نرى فيها هذه الأقاليم وكل منها تريد أن تحدث لنفسها شعرًا مستقلا عن الأقاليم الأخرى. وساعد في ذلك أن الشعراء أنفسهم كانوا يعتبرون العباسيين مثُلا عليا لهم،


١ المغرب: لابن سعيد "السفر الأول من القسم الخاص بمصر" طبع جامعة القاهرة ص٢٧١.
٢ نفس المصدر ص٢٧٢.

<<  <   >  >>