للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قَصَرَ نفسه عليه، غير أننا نجد ابن وكيع لا يعيش بشعوره وأحاسيسه في الطبيعة، فهو يعجب بألوانها وأشكالها، ويصورها من خلال ذلك، أما الشريف العقيلي فقد فتن بها -على ما يظهر- فتنة شديدة جعلته يعنى بمتنزهاته على نحو ما يروي ابن سعيد، كما جعلته في شعره يتعمق الطبيعة ويصل نفسه بنفسها، ويعيش مع كل حركة وكل همسة فيها، وأتاح له ثراؤه ورقته وحبه لها أن يقصر نفسه عليها، فذهب يملؤها بمختلف الوجوه والشخوص، وكأني به كان من ذوي العيون الباصرة أو العيون الشاعرة التي تستطيع أن ترد صور الطبيعة إلى كثير من الرؤى والأحلام الغريبة، وساعده على ذلك أنه كان يتصل بالطبيعة روحًا وحسًّا، وزاد في اتصاله بها أنه كان صبًّا بالخمر، فذهب يتغنى بها وبالطبيعة من حوله، وبدت له الأزهار والثمار والأشجار في صورة خيالية مثيرة كأن يقول١:

أمهاتُ الثِّمارِ بين الرَّوابي ... تائهاتٌ بلبسِ خضرِ الثيابِ

أو يقول٢:

السُّحب تُرْضعُ من بنات الأرضِ ما ... جعلَ الربيعُ لها الغصونَ مُهُودا

وواضح أنه يعمد إلى التشخيص، وملء الطبيعة بالشعور والأحاسيس، وكان يضيف إلى هذا التشخيص مقدرة واسعة على التجسيم، ومقدرة أخرى لعلها أوسع منها، ونعني قدرته على حشد المنظر الواسع في لمحة، كقوله٣:

قد بُيِّضتْ قبةُ السَّماءِ ... وزُرِّقت قاعةُ الفضاءِ

وقوله٤:

الغيمُ ممدودُ السُّرادقْ ... والزهرُ مفروشُ النَّمارِقْ

ومراودُ الأمطارِ قدْ ... كُحلت بها حدقُ الحدائقْ


١ المغرب ص٢١١.
٢ المغرب ص٢٢٥.
٣ المغرب ص٢٠٧.
٤ المغرب ص٢٣٠.

<<  <   >  >>