والمسألة لم تكن سهولة شعر وسرعته كما يقول ابن قتيبة، بل كانت هذا الغناء العباسي وما يستلزمه من أوزان وأنغام جديدة.
ومهما يكن فإن الغناء نوَّع أوزان الشعر في العصر العباسي تنويعًا واسعًا؛ فبينما كان يقضي على بعض الأوزان الطويلة المعقدة -أو يكاد- كان يشيع الأوزان الأخرى التي تتلاءم معه من مثل المتقارب والرمل والهزج والخفيف؛ فإن أَلَمَّ بالأوزان الطويلة أخذ ينوع فيها بما يحدثه من مشطوراتها ومجزوءاتها، أو من اختلاف في ضروبها وأعاريضها. وقد فتح الخليل -كما قدمنا- أبواب الزحافات في العروض ليعدل الشعراء في إيقاعات الأوزان القديمة ونغماتها، وكأن هذه الزحافات خروق في الرُّقُم الموسيقية وضعها الخليل لينفذ منها الشعراء إلى التعديل في الأوزان التي كان يتطلبها الغناء العباسي.
ونستطيع الآن أن نفهم لماذا أدخل الخليل دراسة الزحاف في العروض، ولماذا ترك دوائر مفتوحة، وجاء فيها بأوزان مهملة؛ فقد كان يشعر بحاجة الغناء إلى التجديد في أوزان الشعر، ولو أنه عاش إلى عهد أبي العتاهية لنبه على ما استحدث من أوزان هو وغيره من الشعراء.
وأكبر الظن أن عروض الخليل لم تضبط كل ما عُرف في عصورها من أوزان في الشعر العباسي؛ بل إنا لنراها تقصِّر في ضبط بعض أوزان الشعر القديم؛ فهنالك قصائد أثرتْ عن العصر الجاهلي وهي خارجة عنها، يقول أبو العلاء: "وقصيدة عبيد: أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِه مَلْحُوبُ، وزنها مختلف، وليست موافقة