للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العروض لا يستطيع أن يقيس هذه القيم الصوتية الداخلية في موسيقى الشعر، وإذن يحسن أن نبحث عن مقياس آخر، ولعل من أهم هذه المقاييس التي تقيس هذا الجانب ما اكتشفه عبد القاهر في دلائل الإعجاز من "قواعد النظم" وقواعد هذه "الموسيقى الداخلية" وقد اتخذ من البحتري وشعره دليله على هذه القواعد التي وضعها؛ إذ يقول: أعمد إلى قول البحتري:

بلونا ضرائب من قد نرى ... فما إن رأينا لفتح ضريبا١

هو المرء أبدت له الحادثا ... ت عزمًا وشيكًا ورأيًا صليبا

تنقَّل في خلق سؤدد ... سماحًا مرجَّى وبأسا مهيبا

فكالسيف إن جئته صارخًا ... وكالبحر إن جئته مستثيبا

فإذا رأيتها قد راقتك، وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزازًا في نفسك؛ فعد فانظر في السبب، واستقص في النظر، فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدم وأخر، وعرف ونكر وحذف وأضمر، وأعاد وكرر، وتوخى على الجملة وجهًا من الوجوه التي يقتضيها علم النحو؛ فأصاب في ذلك كله، ثم لطف موضع صوابه، وأتى مأتى يوجب الفضيلة"٢.

ويبدئ عبد القاهر ويعيد في هذا المقياس الذي اتخذه من النحو، ولكن فاته أن علم النحو لا يكشف "الموسيقى الخارجية" موسيقى العروض؛ فأولى به ألا يكشف "الموسيقى الداخلية" موسيقى النظم وهي لا ترتبط به ولا بقواعده، ولم ينفع عبد القاهر ما اعتمد عليه من فلسفة وتفكير دقيق في فهم العبارات والأساليب اللغوية؛ وبذلك فشل علم النحو عنده في تحليل هذا الجانب؛ لأنه الجزء الموسيقي الذي لا يتكرر، والذي كان من أجل ذلك لا يمكن ضبطه في نحو ولا عروض، وقارنْ بين قصيدتين من وزن واحد عند البحتري وأبي تمام بل قارن بين بيتين من قصيدة واحدة عند البحتري فستجد فروقًا وخلافات كثيرة.


١ ضرائب: طبائع. ضريبًا: شبيهًا.
٢ دلائل الإعجاز ص٦٥.

<<  <   >  >>