للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومهما يكن فإن تحليل الموسيقى الداخلية في الشعر لا يكشفه النحو ولا العروض، ولعل خيرًا من ذلك أن نرجع إلى ما لاحظه "لامبورون" في كتابه: "أسس النقد" من أن هذه الموسيقى يشخصها جانبان مهمان، هما اختيار الكلمات وترتيبها من جهة، ثم المشاكلة بين أصوات هذه الكلمات والمعاني التي تدل عليها من جهة أخرى، حتى تحدث هذه الصناعة الغريبة١. أما الجانب الأول وهو اختيار الكلمات وترتيبها؛ فقد اهتم به العباسيون اهتمامًا شديدًا وجعلوه محور الفصاحة والبلاغة كما نرى ذلك في كتابات الجاحظ؛ إذ يكثر من توصية الأدباء بتصفية أساليبهم واختيار ألفاظهم، وما يزال يرشدهم إلى مواقع الكلمات واستعمالها وما يحسن منها وما يستهجن٢. ولعل من طريف صنيعه أنه وضع فاصلًا بين صناعة العباسيين ومن سبقهم من الأعراب، وأقام هذا الفاصل على الملاءمة الدقيقة بين الكلمات والحروف؛ إذ يقول: "ومن ألفاظ العرب ألفاظ تنافَرُ وإن كانت مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلا ببعض استكراه٣". فالشعر القديم كما يلاحظ الجاحظ لا يبلغ من تنقيح ألفاظه وتصفيتها مبلغ الشعر العباسي الذي كان يعيش فيه والذي ألهمه هذا الحكم؛ ويحمد الجاحظ لحذَّاق الشعراء تخيرهم ألفاظهم وملاءمتهم بين كلماتهم حتى؛ لكأنها سُبكت سبكًا واحدًا٤. وكان الناس من حول الجاحظ يعجبون مثله بهذا الجانب، يقول بعض الأدباء العباسيين: "أنذركم حُسْنَ الألفاظ وحلاوة مخارج الكلام، فإن المعنى إذا اكتسى لفظًا حسنًا، وأعاره البليغ مخرجًا سهلًا، ومنحه المتكلم دلًا متعشقًا، صار في قلبك أحلى، ولصدرك أملى، والمعاني إذا كسيت الألفاظ الكريمة، وألبست الأوصاف الرفيعة، وتحولت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها بقدر ما زينت وحسب ما زخرفت"٥، ولعل هذا ما جعل الجاحظ يقول من بعض الوجوه أن البلاغة في الألفاظ لا في المعاني٦؛ فقد بلغ الشعراء والأدباء من تصفية ألفاظهم.


١ LAMBORN, RUDIMENTS OF CRITICISM, CHAP.III
٢ البيان والتبيين ١/ ٢٠.
٣ البيان والتبيين ١/ ٦٥.
٤ البيان والتبيين ١/ ٦٧.
٥ البيان والتبيين ١/ ٢٥٤.
٦ الحيوان للجاحظ ٣/ ١٣١.

<<  <   >  >>