للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإحكام تحبيرها ما جعل الناقد العباسي يحس أن المعاني إذا سُبكت سبكًا جيدًا تتحول عن مقادير صورها، وتُرْبى على حقائق أقدارها.

والبحتري هو أبرع شاعر عباسي صور هذا الجانب وما بلغ الشعراء من إحسانه وتحبيره؛ فقد عرف بمهارة واسعة فيه، ويقول الباقلاني: "إنه كان يتتبع الألفاظ وينقدها نقدًا شديدا"١ ولا يزال يتتبعها وينقدها حتى يؤلف منها ألفاظًا عذبة جميلة يحس ابن الأثير إزاءها "كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات وقد تحلين بأصناف الحلي"٢ فألفاظه عليها رشاقة وأناقة، ولها صوت جميل كوسوسة الحليّ، بل قد يكون لها خشخشة الحصى؛ ولكنه حصى هذا النوع الذي يقول فيه بعض الشعراء.

يروع حَصاة حاليةَ العذارى ... فتلمس جانب العقد النَّظيم

وأما الجانب الثاني وهو "المشاكلة بين اللفظ والمعنى"، فقد كان الأدباء والنقاد وعلي رأسهم الجاحظ يتواصون به كثيرًا٣، وكان البحتري يستوفيه استيفاء غريبًا، حتى ليرتفع في بعض مقطوعاته إلى هذا الأفق الذي عرف به بعض الشعراء الغربيين من أمثال تنيسون وفرجيل. ويجد الباحث في كتاب: "أسس النقد" للامبورون بحثًا واسعًا في هذا الجانب إذ حلله تحليلًا دقيقًا؛ غير أنه تحليل خاص بموسيقى الشعر الانجليزي، وما تعتمد عليه من مقاطع وضغوط وحركات طويلة وقصيرة، ومن العسير أن نطبق ذلك على شعر البحتري، فإن الشعر العربي لا يعتمد كالشعر الانجليزي على المقاطع والضغوط والنبرات والحركات الطويلة والقصيرة، ومع ذلك نستطيع أن نلاحظ في وضوح أن البحتري كان يشاكل بين ألفاظه ومعانيه مشاكلة دقيقة، واقرأ له رثاءه للمتوكل إذ يقول:

مَحَلٌّ عَلَى القاطولِ أخلق داثرُهُ ... وعادت صروف الدهر جيشًا تُغاورُه٤


١ إعجاز القرآن "طبع مطبعة الإسلام" ص١٠٦.
٢ المثل السائر "طبعة بولاق" ص١٠٦.
٣ البيان والتبيين ١/ ٨٣، ٨٨، ٩٢، ١١٤، ١٣٥ وما بعدها.
٤ القاطول: موضع على دجلة كان به قصر المتوكل المسمى الجعفري. أخلق: بلي. الدائر: الدارس. صروف الدهر: نوازله. تغاوره: تحاربه.

<<  <   >  >>