فيوفق بين الشطرين في المطلع، ويجعلهما مصرعين هذا التصريع الذي كان يعجب به أصحاب البيان، ولا يكتفي بذلك بل نره يلائم بين الحروف في الشطرين؛ فقد تكررت الجيم في الشطر الأول كما تكررت الدال في الشطر الثاني فأحدث ذلك توافقًا صوتيًّا بين الكلمات، وما تلبث أن تراه في البيت الثالث يوفق بين الألفاظ توفيقًا دقيقًا؛ إذ جاء بكلمة "يتأبى" كأنها مشدودة إلى كلمة "ينعم" بواسطة هذا الرباط المحكم "منعًا". وهنا نحسن ما يصنعه التوافق الصوتي بين الحروف والكلمات من صلة في العبارات، ولا يزال البحتري يطلب هذا "التوافق الصوتي" حتى يأتي في الشطر الثاني بكلمتين ثم أخريين على نسقهما وحركاتهما، واستطاع أن يصل إلى ذلك بهذا "الطباق الصوتي" بين "يدنو ويبعد وصلًا وصدًا" وإن هذا ليلفتنا إلى الطباق العباسي يمكن أن نعتبر بعض جوانبه أيضًا لونًا صوتيًّا يأتي به الشاعر من أجل الموسيقى، ومثل الطباق في ذلك هذا التقسيم الذي نراه في البيت والذي كان يُعْرَف به البحتري. والحق أن صاحبنا كان يعرف سر مهنته معرفة دقيقة، وانظر إليه في البيت الرابع كيف حقق لنفسه موسيقاه بما أحدث فيه من الوصل والقرابة بين كلماته؛ فكل كلمة تقبل على أختها، تقبل "أمسى" على "أصبح"، و"مولى" على "عبدًا"، كأن الكلمات من أسرة واحدة، وليست هذه الأسرة إلا أسرة "الطباق الصوتي" وما تستبعه من تقسيم. وانظر في البيت الخامس إلى الكلمتين: بنفسي أفدي، ألا تحس أنهما متشابكتان كأنهما عقدتا الخناصر. وانظر في البيت السابع إلى الجلنار والورد تَرَ البحتري يلائم بين ألفاظه ويشاكل بين كلماته حتى يستوعب هذا اللون الذي كان يعجب به أصحاب البديع والذي سُمي بعدُ مراعاة النظير.
وانظر إلى قوافي الأبيات كيف أُحْكم قرارها؛ فقد تتابعت منسقة تنسيقًا جيدًا وها هي "أبدا، صدا، عبدا، أعدى، فردا، وردا، عهدا، تهدا، ندا، قدا" فإنك تراها متحدة في عدد حروفها وحركاتها وسكناتها، وسَمَّى أصحاب البديع ذلك بعدُ بالتطريز، وهو وشي غريب، واستمع إلى هذا البيت:
رِقَّ لي من مدامع ليس تَرْقَا ... وارث لي من جوانج ليس تهدا