للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقديمًا عهدتُني ذا هنَاتٍ ... آبياتٍ على الدنيَّاتِ شُمْسِ١

ولقد رابني نُبُوٌّ ابن عَمِّي ... بَعْدَ لينٍ من جانبيه وأُنْسِ٢

وإذا ما جُفِيتُ كنتُ حريًّا ... أن أرى غير مصبح حيث أمسي

حضرتْ رحلى الهموم فوجَّهْـ ... ـتُ إلى أبيضِ المدائن عَنْسِي٣

أَتَسلّى عن الحظوظ وآسَى ... لمحلّ من آل ساسان دَرْسِ٤

ذكَّرتنيهم الخطوبُ التوالي ... ولقد تُذكر الخطوب وتُنْسي

وهم خافضون في ظلّ عالٍ ... مشرفٍ يحسر العيون ويخسي٥

حِلَلٌ لم تكن كأطلال سُعْدَى ... في قفارٍ من البَسابس مُلْسِ٦

ومساعٍ لولا المحاباة منِّي ... لم تطقها مسعاةُ عَنْسٍ وعَبْسِ٧

فإنك لا شك وعيت ما في هذا الصوت من جمال وزينة، وإذا أخذت تحقق مرجع هذا الجمال ومرد هذه الزينة وجدتهما جميعًا يعودان إلى توافقات موسيقية. وركز البحتري هذه التوافقات في القافية؛ إذ اختار لنفسه قافية ثلاثية في القصيدة كلها حتى يطرزها بهذا التنميق والوشي البالغ. والإنسان لا يتابع البحتري في هذه القصيدة حتى يشعر في وضوح بأنه يسمع الصوت من جهة ويبصره من جهة أخرى؛ فهو مجسم في شكل رائع. وقد وصل صاحبنا إلى هذا التجسيم لا عن طريق القافية وحدها؛ بل عن طريق


١ الهنات هنا: الخصال، الدنيات: الأشياء والأغراض الخسيسة، شمس: عنيدة.
٢ رابني: أوقعني في الريب والشك، نبو: جفوة ونفور، ويقصد بابن عمه الخليفة المنتصر.
٣ أبيض المدائن: يريد القصر الأبيض بالمدائن، وهو من صنع الأكاسرة، والعنس: الناقة القوية.
٤ آسى: أحزن، وآل ساسان: هم حكام الفرس من الأكاسرة قبل الإسلام، درس: دارس وعاف.
٥ خافض: راغد العيش رافهه، عال: قصر شاهق، ويقصد القصر الأبيض. مشرف: بالغ الارتفاع، يحسر العيون: يضعفها إذا نظرت إليه، لارتفاعه الشديد. يخسي: يؤذي ويؤلم.
٦ حلل: جمع حلة، وهي الطائفة من بيوت القبيلة، البسابس: القفار، ملس: خالية.
٧ مساع: مكارم وأعمال جليلة. لم تطقها: لم تستطعها، عنس: قبيلة يمنية، وعبس: قبيلة مضرية.

<<  <   >  >>