التوفيق في الملاءمة بينها أو بعبارة أدق بين الحرف الأخير منها وهو السين، وبين الكلمات الأخرى في أبيات القصيدة كلها؛ فكثير منها تكثر فيه السين، وأعد النظر في الأبيات السابقة وخاصة الأول منها والثاني والتاسع والثاني عشر والثالث عشر فإنك تراه يعرف كيف يأتي بكلمات من ذوات السين كي يلائم بينها وبين القافية؛ حتى ليشعر الإنسان كأن الكلمات تريد أن تتجاذب فبينهما صلة شديدة من الموسيقى. ولم يكتفِ البحتري بالإكثار من حرف السين في القصيدة، بل جنح إلى فكرة ربما كانت أكثر تعقيدًا من سابقتها، وهي فكرة الإكثار من حركات الكسر في الكلمات، وبذلك أوجد مجانسة واسعة بينها وبين القافية، كأن يقول في الأبيات السابقة.
وقديمًا عهدتني ذا هنَاتٍ ... آبياتٍ على الدنيَّات شُمْسِ
وواضح ما في هذا البيت من تقطيعات صوتية داخلية؛ ولكن الذي يهمنا الآن وما نلفت إليه هو أنه عمد إلى الكسرة فعممها في كثير من الكلمات؛ بحيث لا يصل الإنسان إلى القافية إلا ويحس بأن الكلمات تتجاذب تجاذبًا شديدًا، ولعل ذلك هو السبب في أنه أكثر في تلك القصيدة من صنع قوافي داخلية قبل القافية الخارجية على نمط ما نرى في قوله:
وتماسكتُ حين زعزعني الدهـ ... ـر التماسًا منه لتَعْسِي ونَكْسِي
وأكثرَ من هذه القوافي الداخلية في القصيدة لتتم له تقطيعات صوتية يستطيع بها أن يرتفع هذا الارتفاع الفني الذي جعل القدماء يقولون إن شعر البحتري به صناعة خفية، وليست هذه الصناعة الخفية إلا ما نصفه الآن من هذه المهارة الفائقة في استخدام فن الصوت في الشعر ومعرفة قيمه والاحتكام إليها في صناعته. ويتصل بهذه القوافي الداخلية ما نراه في "سينيته" من تقطيعات في الكلمات كأن يقول:
وإذا ما جُفِيتُ كنت حريًّا ... أن أُرَى غَيْرَ مُصْبحٍ حيث أمسى
فإنك تراه يوازن بين الكلمتين "غير مصبح" و"حيث أمسى" موازنة دقيقة فهو