للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأما المعلم الروماني هيبوليتوس (ت ٢٣٥م) الذي أمر البابا فابيوس بإحضار جثته إلى روما تكريماً له؛ فكان أيضاً يؤمن بفكرة (التابعية)، ويعتقد "أن اللوجوس ليس فقط أقنوماً متميزاً عن الآب، ولكنه أقل منه، لأنه ما هو إلا صوت الآب، وما هو إلا انعكاس النور السماوي .. ومع أنه لا يوجد انقسام في اللاهوت فهو يختلف عن الآب" (١).

وكذلك اعتقد أيضاً المعلم الروماني نوفاتيانوس (ت ٢٥٨) عقيدة التبعية في كتابه "عن الثالوث"، واستدل له بدليل الانبثاق، فـ "الابن يستمد أصله ووجوده من الآب .. وهذا الابن أو الكلمة هو أقل من الله، إنه يحتل الدرجة الثانية من الثالوث، لأن الآب موجود من ذاته وبذاته، وأما الابن فمنبثق من الآب الذي هو مصدره ومنبعه".

كما استدل نوفاتيانوس على عدم التساوي بين الأقانيم بدليل آخر، وهو الإرسالية، فالمرسَل دون المرسِل، و"البراقليطوس [أي الروح القدس] أخذ رسالته من المسيح، فإذا كان قد استلمها من المسيح، فيكون هذا الأخير (المسيح) أعظم منه، فلو لم يكن أعظم منه لما استلم رسالته .. الروح القدس خاضع أيضاً للابن وأقل منه، ومرسل من الابن، ومأمور بأمره" (٢).

وأما المعلم أوريجانوس (ت ٢٥٤م) الذي وصفه الخضري بـ "المعلم العظيم .. المؤلفات التي كتبها هذا العبقري حوالي ألفي كتاب [حسب جيروم]، وأما إبيفانوس أسقف قبرص، فقد قال: إن عدد كتبه يزيد على ستة آلاف كتاب؛ على أن المعروف لدينا من هذه الكتب ثمانمائة فقط" (٣)، فاستدل لمعتقده بتفاوت أقدار الأقانيم (التابعية - الدونية) بنصوص الكتاب المصرحة بأن الآب أعظم منه، وقال في رده على كلوس: "فنحن الذين نقول: إن العالم المنظور هو تحت إرادة من خلق كل شيء؛ نعلن أن الابن ليس أقوى من الآب"، ثم يعلق على نص يوحنا: "أبي أعظم مني" (يوحنا ١٤/ ٢٨)، بقوله: "أما نحن الذين نصدق المخلص حين قال: إن الآب الذي أرسلني هو أعظم منه، والذي لا يسمح بأن يلقب بالصالح ناسباً هذا اللقب للآب .. فإنه بهذا يدين الذين يمجدون الآب بإفراط، فنحن نؤمن بأن المخلص والروح القدس يفوقان كل الأشياء المخلوقة، في العظمة والسمو بلا وجه للمقارنة. كذلك الآب يفوقهما في العظمة والسمو بدرجة سموهما وتفوقهما على كل الخلائق الأخرى" (٤)، فالتفاوت في العظمة بين الأب وشريكيه في الألوهية كبير جدا، ولا يعدله شيء إلا التباين بين المسيح الإله وبقية المخلوقات.

وكذلك استدل في تفسيره لإنجيل يوحنا بالنصوص التي تعتبر الابن خالق كل شيء (انظر أفسس ٣/ ٩)، "وإذا كان الأمر كذلك فلابد أن الابن خلق الروح القدس ... "، وكان يعتقد أن "الآب خلق الابن، والابن خلق الروح القدس"، ويضيف ابن المقفع "ولم يقل: إن الآب والابن والروح القدس إله واحد " (٥).

ومن القائلين بعدم تساوي الأقانيم أسقف لاوديكيا (اللاذقية) في القرن الرابع أبوليناريوس (ت ٣٩٠م) الذي كان صديقاً حميماً للبابا أثناسيوس، وقد استدل أبوليناريوس لقوله بتمايز أقدار الأقانيم بتباين الأقانيم في جوهرها وصفاتها؛ وبالحري أقدارها، فمع أن أبوليناريوس دافع بحرارة عن ألوهية المسيح ورفض بدعة الأريوسية؛ إلا أنه كان يعلِّم أن "الأقانيم الثلاثة الموجودة في الله متفاوتة القدر، فالروح عظيم، والابن أعظم منه، والآب هو الأعظم ... ذلك أن الآب ليس محدود القدرة والجوهر، وأما الابن فهو محدود القدرة لا الجوهر، والروح القدس محدود القوة والجوهر" (٦).

ومن أهم القائلين بعدم تساوي الأقانيم؛ القديس أوغسطينوس، فقد ذكر في كتابه الثالوث أن الابن والآب لا يتساويان، لأن الابن صورة الآب، و"الصورة إذا أشبهت ما هي صورته شبهاً تاماً كانت هي مساوية له، وأما هو فليس مساوياً لها" (٧).

لكن الكنيسة التي تملك المجامع التي يحرسها الامبرطور وبيدها الحرمانات والصكوك التي تصدرها بحق مخالفيها؛ استطاعت أن تهدم هذه الآراء التي رأت فيها خطراً على فكرة ألوهية المسيح وألوهية الروح القدس، فكان في تمام الأمر أن تغلَّب البابا أثناسيوس وموافقوه القائلون بتساوي الأقانيم الثلاثة، فقد كان أثناسيوس يعلِّم بخصوص الأقانيم أن: "لا أكبر ولا أصغر، ولا أول ولا آخر، فهم متساوون في الذات الإلهية والقوة والعظمة"، وكما يقول محررو قاموس الكتاب المقدس: "الكتاب المقدس يقدم لنا ثلاث شخصيات يعتبرهم شخص الله ... شخصيات متميزة الواحدة عن الأخرى .. التثليث في طبيعة الله ليس مؤقتاً أو ظاهرياً، بل أبدي وحقيقي .. التثليث لا يعني ثلاثة آلهة، بل إن هذه الشخصيات الثلاث جوهر واحد ... الشخصيات الثلاث متساوون" (٨).

ويلخص القس القبطي الأنبا غريغورس معتقد الأرثوذكس بالثالوث وأقانيمه: "المسيحيون يؤمنون بإله واحد، أحدي الذات، مثلث الأقانيم والخاصيات، فالتوحيد للذات الإلهية، وأما التثليث فللأقانيم، وللأقانيم خاصيات وصفات ذاتية، أي بها تقوم الذات الإلهية، فالله الواحد هو أصل الوجود، لذلك فهو الآب - والآب كلمة ساميّة بمعنى الأصل - .. والله الواحد هو العقل الأعظم .. تجلى في المسيح .. لذلك كان المسيح هو الكلمة .. والكلمة تجسيد العقل، فإن العقل غير منظور، ولكنه ظهر في الكلمة، وهو أيضاً الابن- لا بمعنى الولادة في عالم الإنسان -، بل لأنه صورة الله غير المنظور، والله هو الروح الأعظم، وهو آب جميع الأرواح، ولهذا فهو الروح القدس، لأن الله قدوس" (٩).

أما وقد تبين لنا أقوال الأقدمين في قصة الأقانيم والمصطلحات التي دارت حولها، فالسؤال الذي نود الإجابة عنه: ماذا يقول الكتاب عن التثليث؟ ماذا يقول عن الأقانيم المثلثة ذات الجوهر الواحد؟


(١) المصدر السابق (١/ ٥٧٨).
(٢) المصدر السابق (١/ ٥٨٢، ٥٨٣)، وانظر موسوعة آباء الكنيسة (١/ ٢٣٥).
(٣) تاريخ الفكر المسيحي، القس الدكتور حنا جرجس الخضري (١/ ٥٣٩، ٥٤٦).
(٤) المصدر السابق (١/ ٥٦٠)، وانظر آباء الكنيسة، د. أسد رستم، ص (١٣١) وكيف يفكر الإنجيليون في أساسيات الإيمان المسيحي، واين جردوم، ص (٣١٩).
(٥) تاريخ البطاركة، ساويرس ابن المقفع (١/ ٢٣٠)، وشرح أوريجانوس لإنجيل يوحنا، ص (٤٢٢).
(٦) اللقاء بين الإسلام والنصرانية، أحمد حجازي السقا، ص (٦٩).
(٧) الخلاصة اللاهوتية، توما الأكويني (٢/ ٥٠٤).
(٨) قاموس الكتاب المقدس، ص (٢٣٢)، وانظر: الله واحد أم ثالوث، محمد مجدي مرجان، ص (٤٥ - ٤٧).
(٩) اللقاء بين الإسلام والنصرانية، أحمد حجازي السقا، ص (٦٩).

<<  <   >  >>