للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قراءة في أقوال الآباء في مسألة الأقانيم (*)

وتساءل المحققون عن سبب تسمية الأقانيم بهذه الأسماء، فكلمة (الابن والولادة) تلقي بظلال الحدوث والخلق في أذهان السامعين الذين يشغلهم سؤال: هل كان الأب أباً في الأزل، أم صار أباً بعد أن ولد ابناً؟ فالكتاب المقدس لا يذكر شيئاً في إزالة هذا الإشكال، وعن سبب تسمية الآب والابن بهذين الاسمين (١).

وكان ترتليانوس يرى في أسماء الأقانيم ما يدل على حدوث فعل الولادة في وقت قديم، لكنه ليس في الأزل، ولذلك فهو يرفض أزلية الابن، فالآب: "كونه إلهاً على الدوام مجرداً، لا يجعله أباً ودياناً دائماً، لأنه لم يكن بمقدوره أن يكون أباً قبل أن يولد الابن، ولا بمقدوره أن يكون حكماً قبل أن تقع الخطيئة، لقد كان هناك زمان لم يكن للخطية وجود معه، ولا كان معه ابن، فالخطية جعلت الرب دياناً، والابن جعله أباً" (٢).

وأما الأسقف سابليوس فقد تخلص من المشكلة حين جعل الأسماء دالة على مراحل زمنية لنفس الإله، فالله "ظهر في العهد القديم بصفته آب، وفي العهد الجديد بصفته ابن، وفي تأسيس الكنيسة بصفته روح القدس".

ورفضت الكنيسة هذا وغيره، وفضلت الهروب إلى عالم الأسرار، فالقس توفيق جيد يصور رأيها: "تسمية الثالوث باسم الآب والابن والروح القدس تعتبر أعماقاً إلهية وأسراراً سماوية لا يجوز لنا أن نفلسف في تفكيكها وتحليلها، أو نلحق بها أفكاراً من عندياتنا .. "، وبذلك يكون قد تخلص من هذا الكرب الكبير الذي غرق في لجته الآباء الأوائل.

لكن المشكلة لن تنتهي بهذه السهولة، فقد حار فلاسفة المسيحية أيضاً في تعريف كلمة (أقنوم)، التي ابتدعوها، ولم يتوصلوا إلى معنى دقيق لها إلا في أواسط القرن الرابع (٣)، فهذه اللفظة (أقنوم) غريبة عن الكتاب المقدس لم يعلِّم عنها الكتاب شيئاً، فالتثليث وفلسفته وكافة مصطلحاته من ابتداعات الكنيسة، وهو نتاج سجال فكري طويل بين الآباء في القرون الثلاثة بعد المسيح عليه السلام، ولو شئت أن أبرهن ذلك فإنه يمكنني أن أدرج كافة المصطلحات الواردة في قانون الإيمان (الأقانيم - التثليث - الطبيعتين - الناسوت - اللاهوت - الجوهر)، فكل هذه الكلمات مجهولة عند المسيح وعند غيره من كتبة أسفار الكتاب المقدس، إذ لم يعرف الأنبياء ولا المسيح ولا تلاميذه عنها شيئاً.

لكن الأغرب من هذا والأعجب أن نعلم أن أسماء الأقانيم (الآب، الابن، الروح القدس) لم ترد أبداً في العهد القديم الذي يمثل رسالة الله إلى بني إسرائيل طوال ١٥٠٠ سنة قبل المسيح، ولو جهدنا في البحث في الكتاب المقدس كله عن المفردات التي تطرحها الكنيسة (الله الابن، الله الروح القدس، الله الكلمة) لما وجدنا لها أثراً في الكتاب كله.

تساوي الأقانيم

أشرعت المسيحية منذ رفع المسيح وضياع كتابه بعيداً عن هدي الله، واستحسن فلاسفتها ما عند الوثنيات من عقائد أشربوها، فسرت بينهم أفكار لا علاقة للكتاب المقدس بها، وكان من أهمها فكرة الأقانيم ذات الجوهر الواحد، من غير أن يدور بخلدهم أن تكون هذه الأقانيم الإلهية متساوية في قدرها وسلطانها.

ولو شئنا أن نذكر القارئ ببعض هؤلاء الآباء فإنه يحسن بنا أن نبدأ بالأب يوستينوس (الشهيد) المقتول في روما سنة ١٦٥، فهذا (الأب) يقول في محاورته لليهودي تريفون: "اللوغوس أصبح ابناً إلهياً، ولكنه خاضع للآب" (٤)، فهو يقول بمذهب (التبني) الذي يرى بأن المسيح صار إلهاً، وقد ربطه بعض العلماء بحادثة العماد خصوصاً حين كلمه الله: "أنت ابني الحبيب بك سررت" (لوقا ٣/ ٢٢)، وما يهمنا هنا قوله: "ولكنه خاضع للآب "، وحجته في ذلك - ولا ريب - قول بولس: "متى أخضع له [أي للابن] الكل، فحينئذ الابن نفسه أيضاً سيخضع للذي أخضع له الكل (لله)، كي يكون الله الكل في الكل" (كورنثوس (١) ١٥/ ٢٨) (٥).

وهكذا فإن "يوستينوس يعتقد بأن الابن أدنى من الآب، وأن الروح القدس أقل من الابن، فقد كتب يقول: (إن الله اللوغوس هو إله وسيد أقل من الله الخالق للكون)، وعندما يتكلم عن الثالوث يضع الله السامي في المرتبة الأولى، والمسيح في المرتبة الثانية، والروح القدس في المرتبة الثالثة" (٦)، ويقول: "يسوع المسيح الذي صلب في عهد بيلاطس البنطي .. نرى فيه ابن الله، ونضعه في المنزلة الثانية، وفي الثالثة الروح النبوي [الروح القدس] ".

ثم يرد على سخرية الرافضين لوضع المصلوب المهان في مرتبة بعد مرتبة الله العظيم واعتبارهم ذلك من ضرباً من الجنون، ويقول: "هذا سر لا تفهمونه، سنشرحه لكم، فتفضلوا فاتبعونا" (٧).

وعلى خطى يوستينوس مشى ترتليانوس (٢٢٥م) الذي أوجد مصطلح "التثليث" في المسيحية، فهذا "المعلم الأفريقي (ترتليانوس) قد أعطى المكانة الأولى في الثالوث للآب، والمكانة الثانية للابن، والمكانة الثالثة للروح القدس؛ إلا أنه أكد كثيراً وبشدة على حقيقة أن هؤلاء الثلاثة من جوهر واحد"، وكان يشبه الثالوث بنهر فيه ثلاث مجاري صغيرة، فالمجرى الصغير لا يساوي الكبير، مع أن الماء في الجميع واحد (٨).


(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذه الصفحة وما بعدها مما زاده المؤلف - في هذه النسخة الإلكترونية - عن المطبوع
(١) انظر: الله في المسيحية، عوض سمعان، ص (١٦٦).
(٢) The Ante-Nicene Fathers Vol. III , pp ٤٧٩،Against Hermogenes, Tertullian ,ch ٣، وانظر الموسوعة الكاثوليكية، طبعة نيويورك، ١٩١٣م (١٤/ ٥٢٤)، وتاريخ الفكر المسيحي، القس الدكتور حنا جرجس الخضري (١/ ٥٢٩)، والنص من ترجمة الصديق الأستاذ علي الريس في كتابه القيم "نفي ألوهية الروح القدس"، ص (٧).
(٣) موسوعة الأنبا غريغوريوس (اللاهوت المقارن)، ص (١٢٠).
(٤) المصدر السابق (١/ ٤٥١)، وقد اقتبس منه هذا الاستدلال أوريجانوس: "الابن هو أقنوم متميز، يمكن القول بأنه [إله ثان] خاضع للأب" تاريخ الكنيسة، جون لويمر (٢/ ٦٧).
(٥) تاريخ الفكر المسيحي، القس الدكتور حنا جرجس الخضري (١/ ٤٥١).
(٦) المصدر السابق (١/ ٤٥٣)، وقد نقل ذلك عن كتاب يوستينوس "دفاعان عن المسيحية ضد الوثنيين".
(٧) الدفاع عن المسيحية (الحوار مع تريفون)، يوستينوس، ص (٢٢).
(٨) تاريخ الفكر المسيحي، القس الدكتور حنا جرجس الخضري (١/ ٥٣٠).

<<  <   >  >>