وهذا الوجود القديم للمسيح - عليه السلام - بمعنى الاصطفاء الإلهي والمحبة الإلهية له هو المجد الذي منحه الله المسيح، كما في قوله:"والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم"(يوحنا ١٧/ ٥)، وهو المجد الذي أعطاه لتلاميذه حين اصطفاهم واختارهم للتلمذة كما الله اختاره للرسالة " أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم"(يوحنا ١٧/ ٢٤)، ومحبة الشيء لا تستلزم وجوده، فقد يحب المرء المعدوم أو المستحيل، الذي لم ولن يوجد.
وقبل أن نفسر معنى الرؤية الإبراهيمية للمسيح ننبه إلى أن الرؤية تكون على نوعين: رؤية البصر المعروفة، ورؤية البصيرة بمعنى المعرفة، كما يقول القائل: رأيت الإسلام أعظم الأديان. أو رأيت عنترة أشجع الفرسان، فهذه رؤية المعرفة.
ورؤية إبراهيم للمسيح رؤية معرفة، وهو لم ير المسيح قبل خلقه ووجوده الأرضي، لأنه لم يره قطعاً، لذا فقوله:"فقد رآني وابتهج بي"، هو رؤية مجازية معرفية، بمعنى أنه عرف خبري وابتهج لذلك، ومن أنكر ذلك لزمه أن يذكر دليلاً على رؤية إبراهيم للابن الذي هو الأقنوم الثاني، أو أن يثبتوا لجسد المسيح وجوداً زمن إبراهيم - عليه السلام -.
وقول المسيح:"من قبل أن يكون إبراهيم كنت أنا"(يوحنا ٨/ ٥٦ - ٥٨)، لا يدل على وجوده في الأزل، وغاية ما يفيده النص - إذا حمل على ظاهره - أن للمسيح - عليه السلام - وجوداً أرضياً يعود إلى زمن إبراهيم، وزمن إبراهيم لا يعني الأزل.
ثم لو فرضنا - جدلاً - أن المسيح أقدم من إبراهيم وسائر المخلوقات، فإن له من يشاركه في هذه الأقدمية، وهو النبي إرمياء، والذي عرفه الله منذ القدم وقدسه قبل أن يخرج من رحم أمه، إذ يقول عن نفسه:"فكانت كلمة الرب إليّ قائلاً: قبلما صورتكَ في البطن عرفتُك، وقبلما خرجتَ من الرحم قدستُك، جعلتك نبياً للشعوب"(إرمياء ١/ ٤ - ٥)، وقال عنه ابن سيراخ في حكمته:"وهو الذي قُدِّس في جوف أمه"(ابن سيراخ ٤٩/ ٧)، وهذه المعرفة الإلهية لإرمياء - بلا ريب - أشرف من معرفة إبراهيم للمسيح وأقدم، ولا تستلزم وجوداً حقيقياً له على الأرض.