واستدل من فسر الواجب بما يستحق تاركه الذم عقلا بأن من الأفعال ما يستحق فاعله الذم عقلا، ومنها ما يستحق تاركه الذم عقلا، وكل ما كان كذلك فهو واجب الفعل والترك عقلا.
والجواب أن الحاكم بالحسن والقبح هو الله تعالى - على ما سبق بيانه في أول مطالب هذا المقصد - ولأن الواجب يقع والممتنع لا يقع من غير أن يحكم العقل شيئا فيهما؛ فجعل الله تعالى محكوما لبعض خليقته ضلال وزندقة. ولا حجة لهم بقوله تعالى:{إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم} قوله تعالى: {كتب على نفسه الرحمة} قوله تعالى: {كان على ربك حتما مقضيا} لأن المراد من الآية الأولى تأكيد الحكم دون الإيجاب، والمعنى وعد بالرحمة وعدا مؤكدا وهو منجز البتة، ولاستحالة تطرق الخلف إلى وعده أجراه مجرى الواجب وذكر النفس للاختصاص ورفع الوسائط. و {على} في الآية الأولى لتأكيد المحاسبة والمجازاة، وفي الثانية لتأكيد التفضل لا للإيجاب، وفي الثالثة لتأكيد ورود كل أحد النار. ومعنى {حتما} أمر مبرم، فإن الحتم إبرام الأمر وإحكامه، وقوله تعالى:{وكان حقا علينا نصر المؤمنين} معناه: وكان ثابتا محققا بمقتضى الوعد، و {على} للتأكيد.
وأقول: لما كان هذا المقام مما تزل فيه الأقدام، لا بأس علينا أن نزيده بيانا ونورد له حجة وبرهانا، فإن حمل هذه الآيات على ما سمعت غير مرضي لدى المحققين، ومنتقد عند أرباب البصائر واليقين. وأحسن ما رأيته ما كتبه الأواه عمدة المحدثين وأحد الحفاظ المتقنين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بالحافظ ابن القيم -رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مثواه- في كتابه بدائع الفوائد، الذي هو في الحقيقة درر وفرائد، فقال بعد كلام له في هذا الباب: