عرض عليه القضاء فامتنع منه، فشد عليه فيه، فأشار عليه بعض أصحابه أن يلي ويتصرف في أموره التصرف الشرعي، ليكون ذلك سببا لقوله فكان كذلك. ولي بلدة "القيروان" فوقعت معارضة بين المكاس وبين بعض أهلها فدعي إليه، وقال لهم: ليس في الشريعة مكس وضرب المكاس وطيف به، فنهى الأمر إلى الولاة بحاضرة افريقية فأمروا بعزله وقالوا هذا لا يصح للولاية، فوصل مرفعا مكرما وما زال عاكفا على العلم والعمل إلى أن مات رحمه الله.
دخل بجاية في مدة اجتيازه إلى المشرق، وذكر لنا صاحبنا الفقيه أبو عبد الله الحدميوتي (كذا) وفقه الله عنه إنه قال: وصلت وصحبني رجل من أعلام المتقين ومن عباد الله الصالحين من أهل المغرب، فلما حللنا بالجزائر عرضت له إقامة هناك فتقدمته إلى بجاية، فأقمت بها الذي أقمت وانفصلت عنها، ثم وصل الرجل المذكور بعدي فتلقاه الناس وأقبلوا عليه فاستضافه رجل من أهلها وأخذ في إكرامه، ولما حضر وقت صلاة المغرب: صلى الفرض وصلى بعده ركعتين ولم يزد على ذلك شيئا ولما حضر وقت صلاة العشاء صلى الرجل ركعتين قبل العشاء وأدى الفريضة والوتر بشفعه ولم يزد على ذلك، ولما أصبح الناس لزيارة الرجل والتبرك به، تلقاهم رب المنزل وهو يشير لهم إنه ليس هناك كبير عمل، فكوشف الشيخ بذلك وكان على قدم الحركة مستعجلا، فاستخار الله فصرف أصحابه وخدامه وطلب الإقامة عند الرجل الذي انزله، فأقام عنده ثلاثين يوما وليلة لم يأكل فيها طعاما ولا يشرب فيها ماء، ولا زاد في حال العبادة شيئا سوى أداء الفرائض، وإنما هو مجرد وصال، ولما تمت الثلاثون يوما قال للرجل: أنا أنصرف، وقال له: ما أقمت عندك هذه المدة إلا لئلا تزدري بأولياء الله تعالى إذا رأيتهم يؤدون الفرائض ويقتصرون عليها، وأي فضل أعظم من أداء الفرائض إذا فعلها الفاعل على حقيقتها وارتكب جميل طريقتها؟ وهذا الرجل إنما كان من أهل العرفان، وإنما كانت عبادته في فكرته، ولكن العامة ما يرون الفضل إلا لمن يكثر الركوع والسجود والصيام وإن كان جاهلا، وذلك لعدم تمييزهم وقلة علمهم.