بعد قراءة الأرجوزة، وكانت الأبحاث في كل ذلك جارية على القوانين النظرية والاستدلالات الجلية.
وكان رحمه الله إذا سئل عن المسألة الطبية كثيرا ما يتوقف عن الجواب إلا بعد نظر، ورأيت غيره من الأطباء ممن يقصر عن معرفته إذا سئل ساعة ما يسأل يجيب، وربما اعتقد هذا المسرع في الجواب أو غيره من الأغبياء أن سرعة المسرع هي لمعرفته وان إبطاء المبطئ هو لتقصيره، وهذا هو اعتقاد الأغبياء في أمثال هذا، وإنما الإبطاء في الجواب دليل العلم لأنه بين السائل للطبيب الغرض العارض للعليل، ولابد أن يقع له النظر في الأسباب وتمييزها والحدس على السبب الفاعل أن تعارض وينظر أنسب الأودية، وحينئذ يقع الجواب، وهكذا هو حال حذاق الأطباء، وأما عوامهم ومن يعد منهم في أعداد القوابل، فعندما يسأل يجيب بغير علم، ولقد رأيت بعض من كان مبخوتا في الطب يعالج المرضى فتخفى عليه الشكاية فيعالجها بالحار تارة وبالبارد تارة أخرى، بحيث ينظر فان انجح فيها احدهما استمر عليه، ويحرم على الإنسان أن يمكن نفسه ممن حاله مثل هذه الحال ويحرم على من هذه صفته أن يطب، وهذه الصناعة هي أشد الصنائع ضياعا في بلاده لأنه يتعرضها الغث والسمين، ولا يقع بينهما التمييز إلا عند القليل من الناس.
وكان رحمه الله متوليا لطب الولاة ببجاية هو وبعض خواص الأطباء بها، ورحل إلى حاضرة أفريقية باستدعاء أمير المؤمنين المستنصر له بعد أن سمع به وعرف خبره، فحضر مجلسه وسئل فأجاب ووافق طريق الصواب، وانتظم في سلك أطبائه، وكان من جملة جلسائه.
وله "رجز" نظم فيه بعض الأدوية واستكمله وهو ببجاية، وكان رحمه الله شرع في نظم الأدوية المفردة من القانون، وكلفني بنظم بعض الأدوية على سبيل التعاون فنظمت له بعضها وما علمت استكملها بعد أم لا، وتوفي بتونس حرسها الله في عام أربعة وسبعين وستمائة.