هذا المكان الذي يعلم الله في الأزل أنه من أطهر أماكن الأرض وأقدسها، وأنه سيكون موطن الحجيج إلى آخر الدنيا. ومنبع آخر رسالة يرسلها إلى الأرض، ومنبت خير نبي وأعظم رسول محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم. وتقبلت هاجر الحكم صابرة، واحتضنت وليدها في انتظار أمر السماء فيهما واهتز قلب الأب وراح يدعو ربه في خشوع وتضرع.
وتعاقب الأيام على هاجر الصابرة، وأخذ المكان الموحش يفزعها وإرادتها القوية تهتز، وما معها من زاد وماء ينفد، وماذا يفعل لقد ضاقت بها الدنيا ولم يعد لها إلا السماء أملا، وطفلها الصغير يبكي جوعا وعطشا فيزيد ألمها تفجرا، وتتخايل أمامها أسراب وأوهام فتجري إليها متصورة أنها ماء حتى تصل في سعيها إلى الصفا ذلك المكان المرتفع من الأرض فلا تجد عنده بغيتها، فترتد عائدة بعد أن تنظر خلفها فيخيل لها أن الماء في الجهة الثانية على جبل المروة، وتسرع الخطى حتى إذا ما وصلت إلى هناك راعها أنه سراب، فتعود من حيث أتت عند الصفا ثم تقفل مرة أخرى إلى المروة وهكذا سبعة أشواط يمتد طولها وعرضها في أعماق النفس الإنسانية ليبين حرص آلام على وليدها، واستعدادها الدائم لفدائه بنفسها، وفي النهاية تنهار هاجر ويكل جسدها، ولكن عزيمتها لا تضعف، وصبرها لا ينفد، تنادي من أعماقها يا رب، وإسماعيل الصغير يبكي ويبكي ويضرب الأرض بقدميه وإذا بالماء يتفجر من تحت قدميه، ماء عذبا طيبا يملأ الأرض من حوله،