للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن يأذن له فى الحديث، ففعل، وكان يحدث على ما ذكرنا.

وقال القاضى ابن خلكان: وكان ابن طولون يدفع له فى كل سنة ألف دينار خارجًا عن المقرر له، فيتركها ولا يتصرف فيها، ولما اعتقله بسبب امتناعه من خلع الموفق بن المتوكل طالبه، بحمل المبلغ الذى كان يأخذه فى كل سنة، فحمله إليه بختمه، وكان ثمانية عشر كيسًا، فاستحى أحمد، وكان يظن أنه أخرجها وأنه يعجز عن القيام بها، فلهذا طالبه، ثم إن أحمد بن طولون مرض مرضًا شديدًا، فأمر الناس بالدعاء له فى مسجد محمود بسفح المقطم، فخرجوا يدعون له ومعهم اليهود والنصارى بالتوراة والإنجيل، ودعا أحمد بن خمارويه، وقال له: اذهب إلى القاضى بكار فسلم عليه، وقل له ليدع لى، فجاء إليه، فوجده يصلى، وقال له: جئت فى أمر أبيك، فأخذ بلحية نفسه، وقال: اذهب إليه، وقل له: إنه عليل قد أشرف على قبره، وأنا شيخ عليل قد أشرفت على قبرى، والمجمع بيننا بين يدى الله تعالى.

وماتا فى تلك السنة التى مرض فيها ابن طولون، وهى سنة سبعين ومائتين، ورئى أحمد فى المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: شفع فى القاضى بكار فشفع، وكان القاضى بكار يكثر التلاوة، ويحكم بمذهب أبى حنيفة، وكان من البكائين، وكان يكثر الوعظ للخصوم، ويتلو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً ... } [آل عمران: ٧٧] الآية، وكان يحاسب أمناءه فى كل وقت، ويسأل عن الشهود فى كل وقت، وكان إذا فرغ من الحكم خلا بنفسه وعرض عليه قصص جميع من تقدم إليه، وما حكم به، وكان يخاطر نفسه، ويقول: يا بكار، تقدم إليك رجلان فى كذا، وتقدم إليك خصمان فى كذا، وحكمت بكذا، وعملت بكذا، فما يكون جوابك غدًا؟.

ومات رجل ولأحمد بن طولون عليه دين، فأرسل إلى بكار: بع ماله، فقال: حتى تحلف أنك تستحقه، فجاء ابن طولون إلى مجلسه وحلف، فقال بكار: أما الآن، فنعم، فباع ماله وقضى دينه، وكان ينشد دائمًا:

لنفسى أبكى لست أبكى لغيرها ... لنفسى فى نفسى عن الناس شاغل

وكان يحيى الليل كله، فإذا أصبح كان وجهه كالقمر، ودخل عليه رجلان يختصمان أحدهما أب الآخر، فنظر إليهما، وأنشأ يقول:

تعطايتما ثوب العقوق كلاكما ... أب غير بر وابنه غير واصل

<<  <  ج: ص:  >  >>