وجرى مرّة كلام في الممكن، فحكيت عن ابن يعيش الرّقيّ فصلا سمعته يقوله، لا بأس برسمه في هذا الموضع، فإنّ التشاور في هذا الحرف دائم متّصل وينبغي لنا أن نبحث عنه بكلّ زحف وحبو، وبكلّ كدّ وعفو.
قال: الممكن شبيه بالرؤيا لا بدن له يستقلّ به، ولا طبيعة يتحيّز فيها.
ألا ترى أنّ الرؤيا تنقسم على الأكثر والأقلّ والتساوي، وكما أنّ الرؤيا ظلّ من ظلال اليقظة، والظلّ ينقص ويزيد إذا قيس إلى الشّخص، كذلك الممكن ظلّ من ظلال الواجب، فطورا يزيد تشابها للواجب، وطورا ينقص تشاكها للمتنع، وطورا يتساوى بالوسط.
قال: والواجب لا عرض له، لأنّه حدّ واحد، وله نصيب من الوحدة بدليل أنّه لا تغيّر له ولا حيلولة لا بالزّمان ولا بالمكان ولا بالحدثان ولا بالطبيعة ولا بالوهم ولا بالعقل، بل العقل ينقاد له، والطبيعة تسلم إليه، والوهم يفرق منه وصورة الواجب لا يحدسها الظنّ، ولا يتحكّم فيها تجويز، ولا يتسلط عليها دامغ ولا ناسخ، وهذا الحكم يطّرد على الممتنع، لأنّه في مقابلته على الضّدّ، أعني أنّه لا بدن له، فيكون له عرض، والعرض كلّه للمكن بالنعت الذي سلف من الكثرة والقلّة والمساواة.
ولهذا تعلّقت التكاليف به في ظاهر الحال وبادئ الأمر وعارض الشان، واستولى الوجود عليه بباطن الحال وخفيض الأمر وراتب الشان، لكنّ هذا الفصل الّذي اشتمل على الظاهر والباطن ليس ينكشف للحسّ كما ينكشف للعقل.
ولمّا كنّا بالحسّ أكثر- وإن كنّا لا نخلو في هذه الكثرة من آثار العقل- لزمنا الاعتراف بعوائد الممكن وعلائقه، والعمل عليها، والرجوع إليه إذا أمرنا أو نهينا أو ائتمرنا أو انتهينا.
ولمّا ظهر لنا بإزاء هذا الّذي كنّا به أكثر أنّ لنا شبحا آخر نحن به أقلّ وهو العقل يشهد لنا بأنّ صورة الوجوب استولت من مبدأ الأمر إلى منقطعه الّذي هو في عرض الواجب إلى آخر الممتنع.
وكما لزمنا الاعتراف الأوّل لنكون به عاملين ومستعملين، ورافعين وواضعين، ولائمين وملومين، ونادمين ومندمين، كذلك لزمنا الاعتراف بسلطان الواجب الّذي لا