وسأل مرّة عن المغنّي إذا راسله آخر «١» لم يجب أن يكون ألذّ وأطيب، وأحلى وأعذب؟
فكان من الجواب: أنّ أبا سليمان قال في جواب هذه المطالب ما يمنع من اقتضاب قول وتكلّف جواب، ذكر أنّ المسموع الواحد إنما هو بالحسّ الواحد، وربما كان الحسّ الواحد أيضا غليظا أو كدرا، فلا يكون لنيله اللذّة به بسط ونشو ولذاذة، وكذلك المسموع ربّما لم يكن في غاية الصّفاء على تمام الأداء بالتقطيع الذي هو نفس في الهواء، فلا تكون أيضا إنالته للذّة على التّمام والوفاء، فإذا ثنّي المسموع- أعني توحّد النّغم بالنّغم- قوي الحسّ المدرك، فنال مسموعين بالصناعة، ومسموعا واحدا بالطبيعة، والحسّ لا يعشق المواحدة والمناسبة والاتّفاق إلّا بعد أن يجدها في المركّب، كما أن العقل لا يعشق إلّا بعد أن ينالها في فضاء البسيط، فكلّما قويّ الحسّ باستعماله، التذّ صاحبه بقوّته حتى كأنه يسمع ما لم يسمع بحسّ أو أكثر، وكماأن الحسّ إذا كان كليلا كان الذي يناله كليلا، كذلك الحسّ إذا كان قويّا كان ما يناله قويّا.
قال: هذا كلّه موهوب للحسّ، فما للعقل في ذلك؟ فإنّا نرى العاقل تعتريه دهشة وأريحيّة واهتزاز.
قلت: قد أتى على مجموع هذا ومعرفته أبو سليمان في مذاكرته لابن الخمّار، وذكر أنّ من شأن العقل السّكون، ومن شأن الحسّ التهيّج، ولهذا يوصف العاقل بالوقار والسكينة، ومن دونه يوصف بالطّيش والعجرفة، والإنسان ليس يجد العقل وجدانا فيلتذّ به، وإنما يعرفه إمّا جملة وإمّا تفصيلا، أعني جملة بالرسم وتفصيلا بالحدّ، ومع ذلك يشتاق إلى العقل، ويتمنّى أن يناله ضربا من النّيل ويجده نوعا من الوجدان، فلما أبرزت الطبيعة الموسيقى في عرض الصّناعة بالآلات المهيّأة، وتحرّكت بالمناسبات التّامّة والأشكال المتّفقة أيضا، حدث الاعتدال الذي يشعر بالعقل وطلوعه وانكشافه وانجلائه، فبهر الإحساس، وبثّ الإيناس، وشوّق إلى عالم الرّوح والنّعيم، وإلى محلّ الشرف العميم، وبعث على كسب الفضائل الحسّية