للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الليلة الرابعة والثلاثون]

وقال الوزير في بعض الليالي: قد والله ضاق صدري بالغيظ لما يبلغني عن العامّة من خوضها في حديثنا، وذكرها أمورنا، وتتبّعها لأسرارنا، وتنقيرها عن مكنون أحوالنا، ومكتوم شأننا، وما أدري ما أصنع بها، وإنّي لأهمّ في الوقت بعد الوقت بقطع ألسنة وأيد وأرجل وتنكيل شديد، لعلّ ذلك يطرح الهيبة ويحسم المادّة، ويقطع هذه العادة، لحاهم الله، ما لهم لا يقبلون على شؤونهم المهمّة، ومعايشهم النافعة، وفرائضهم الواجبة؟ ولم ينقّبون عمّا ليس لهم، ويرجفون بما لا يجدي عليهم، ولو حقّقوا ما يقولون ما كان لهم فيه عائدة ولا فائدة، وإني لأعجب من لهجهم وشغفهم بهذا الخلق حتّى كأنّه من الفرائض المحتومة، والوظائف الملزومة، وقد تكرّر منّا الزّجر، وشاع الوعيد، وفشا الإنكار بين الصّغار والكبار، ولقد تعايى عليّ هذا الأمر وأغلق دوني بابه، وتكاثف عليّ حجابه، والله المستعان.

فقلت: أيّها الوزير، عندي في هذا جوابان: أحدهما ما سمعت من شيخنا أبي سليمان، وهو من تفوّق في الفضل والحكمة والتجربة ومحبّة هذه الدولة والشّفقة عليها من كل هبّة ودبّة، والآخر مما سمعته من شيخ صوفيّ، وفي الجوابين فائدتان عظيمتان، ولكن الجملة خشناء، وفيها بعض الغلظة، والحقّ مرّ، ومن توخّى الحقّ احتمل مرارته.

قال: فاذكر الجوابين وإن كانا غليظين، فليس ينتفع بالدّواء إلّا بالصّبر على بشاعته، وصدود الطّبع عن كراهته.

قلت: أمّا أبو سليمان، فإنه قال في هذه الأيام: ليس ينبغي لمن كان الله عزّ وجلّ جعله سائس الناس: عامّتهم وخاصّتهم وعالمهم وجاهلهم، وضعيفهم وقويّهم، وراجحهم وشائلهم، أن يضجر مما يبلغه عنهم أو عن واحد منهم لأسباب كثيرة، منها:

أنّ عقله فوق عقولهم، وحلمه أفضل من حلومهم، وصبره أتمّ من صبرهم، ومنها: أنّهم إنما جعلوا تحت قدرته، ونيطوا بتدبيره، واختبروا بتصريفهم على أمره ونهيه، ليقوم بحقّ الله تعالى فيهم، ويصبر على جهل جاهلهم، ويكون عماد حاله معهم الرّفق بهم، والقيام بمصالحهم، ومنها: أنّ العلاقة التي بين السّلطان وبين الرّعيّة قويّة، لأنّها إلهيّة، وهي أوشج من الرّحم التي تكون بين الوالد والولد، والملك والد كبير، كما أنّ الولد ملك صغير، وما يجب على الوالد في سياسة ولده من الرّفق به، والحنوّ عليه، والرّقّة له، واجتلاب المنفعة إليه، أكثر ممّا يجب على الولد في طاعة والده، وذلك أنّ الولد

<<  <   >  >>