قال لي بعد ذلك في ليلة أخرى: كيف رضاك عن أبي الوفاء؟ قلت: أرضى رضا بأتمّ شكر وأحمد ثناء، أخذ بيدي، ونظر في معاشي، ونشّطني وبشّرني، ورعى عهدي، ثم ختم هذا كلّه بالنعمة الكبرى، وقلّدني بها القلادة الحسنى، وشملني بهذه الخدمة، وأذاقني حلاوة هذه المزيّة، وأوجهني عند نظرائي.
قال: هات شيئا من الغزل. فأنشدته:
كلانا سواء في الهوى غير أنّها ... تجلّد أحيانا وما بي تجلّد
تخاف وعيد الكاشحين وإنما ... جنوني عليها حين أنهى وأبعد
ثمّ قال: غالب ظنّي أن نصرا غلام خواشاذه ما هرب من فنائي إلا برأيك وتجسيرك، فإنّ ذلك عبد، ولا جرأة له على مثل هذا النّدود والشّذوذ، فقد قال لي القائل: إنّك من خلصانه.
فقلت: والله الّذي لا إله إلّا هو ما كان بيني وبينه ما يقتضي هذا الأنس وهذا الاسترسال، إنما كنا نلتقي على زنبرية «١» باب الجسر بالعشايا وعند البيمارستان وعلى باب أبي الوفاء، وإنما ركنت إليه لمرقّعته وتاسومته عند ما كنت رأيته عند صاحبه بالرّيّ سنة تسع وستين وهو متوجه إلى قابوس بجرجان، في المذلّة الدائمة والحال المربوطة، ولو نبس لي بحرف من هذا، أو كنت أشعر بأقلّ شيء منه، لكنت أقوله لأبي الوفاء قضاء لحقّه، ووفاء بما له في عنقي من مننه وخوفا من هذا الظنّ بي، وقصورا عن اللائمة لي.
قال: أفما تعرف أحدا تسأله عنه ممن كان يخالطه ويباسطه؟
قلت: ما رأيته إلا وحده، وكم كان زمان التلاقي؟ كان أقلّ من شهر، أفي هذا القدر يتوكّد الأنس وترتفع الحشمة وتستحكم الثقة ويقع الاسترسال والتشاور؟ هذا بعيد.
قال: هذا المتخلّف كنت قد قرّبته ورتّبته، ووعدته ومنيّته، وتقدمت إلى أبي الوفاء بالإقبال عليه، والإحسان إليه، وإذكاري بأمره في الوقت بعد الوقت، حتى أزيده نباهة وتقديما، فترك هذا كلّه وطوى الأرض كأنّه هارب من حبس، أو خائف