للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من عذاب. ويقال في الأثر: إن بعض الصّفيحيّين «١» قال: لله قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل، ما أكثر من يفرّ من هذه الكرامة، ويقوى- على ترف جمّ- على الهوان، ويصبر على البلاء، ويقلق في العافية! إنّ السجايا لمختلفة، وإنّ الطباع لمتعادية، قلّما يرى شخصان يتشاكلان في الظاهر إلّا يتباينان في الباطن.

قلت: كذلك هو.

قال: حدّثني لم امتنعت من النفوذ مع ابن موسى إلى الجبل فيما رسمنا له أن يتوجّه فيه؟ ولقد أطلت التعجّب من هذا وكرّرته على أبي الوفاء.

فقلت: منعني من ذلك ثلاثة أشياء: أحدها أن ابن موسى لم يكن من شكلي ولا أشدّ للضدّ هونا من مصاحبة الضّد، لأنّه سوداويّ وجعد. والآخر أنّه قيل: ينبغي أن تكون عينا عليه، وأنا لو قررت لك الحديث لما رأيته لائقا بحالي، فكيف إذا قرنت برجل باطليّ لو مرّ بوهمه أمري لدهدهني من أعلى جبل في الطريق. والآخر أنّي كنت أفد مع هذا كله على ابن عبّاد- وهو رجل أساء إليّ وأوحشني، وحاول على لسان صاحبه ابن شاهويه أن أنقلب إليه ثانيا، وكنت أكره ذلك، وما كنت آمن ما يكون منه ومنّي، والمجنون المطاع، مهروب منه بالطباع.

وبعد، فليس لي حاجة في مثل هذه الخدمة، لأن صدر العمر خلا منّي عاريا من هذه الأحوال، وكان وسطه أضعف حملا، وأبعد من القيام به والقيام عليه.

فقال: ما كان عندي هذا كلّه.

قال: إنّي أريد أن أسألك عن ابن عبّاد فقد انتجعته وخبرته وحضرت مجلسه، وعن أخلاقه ومذهبه وعادته، وعن علمه وبلاغته، وغالب ما هو عليه، ومغلوب ما لديه، فما أظنّ أنّي أجد مثلك في الخبر عنه، والوصف له، على أنّي قد شاهدته بهمذان لمّا وافى، ولكنّي لم أعجمه، لأن اللّبث كان قليلا، والشغل كان عظيما، والعائق كان واقعا.

فقلت: إنّي رجل مظلوم من جهته، وعاتب عليه في معاملتي، وشديد الغيظ لحرماني، وإن وصفته أربيت منتصفا، وانتصفت منه مسرفا، فلو كنت معتدل الحال بين الرضا والغضب، أو عاريا منهما جملة، كان الوصف أصدق، والصدق به أخلق، على أني عملت رسالة في أخلاقه وأخلاق ابن العميد أودعتها نفسي الغزير، ولفظي الطويل والقصير، وهي في المسوّدة ولا جسارة لي على تحريرها، فإنّ جانبه مهيب، ولمكره دبيب، وقد قال الشاعر:

إلى أن يغيب المرء يرجى ويتّقى ... ولا يعلم الإنسان ما في المغيّب

<<  <   >  >>