للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال: دع هذا كلّه، وانسخ لي الرسالة من المسوّدة، ولا يمنعنّك ذاك فإنّ العين لا ترمقها والأذن لا تسمعها واليد لا تنسخها.

وبعد، فما سألتك إلا وصفه بما جبل عليه، أو بما كسب هو بيديه من خير وشرّ، وهذا غير منكر ولا مكروه، لأمر الله تعالى، فإنّه مع علمه الواسع، وكرمه السابغ، يصف المحسن والمسيء، ويثني على هذا وينثو «١» على ذاك، فاذكر لي من أمره ما خفّ اللفظ به وسبق الخاطر إليه وحضر السبب له.

قلت: إنّ الرجل كثير المحفوظ حاضر الجواب فصيح اللسان، قد نتف من كل أدب خفيف أشياء، وأخذ من كلّ فنّ أطرافا، والغالب عليه كلام المتكلّمين المعتزلة، وكتابته مهجّنة بطرائقهم، ومناظرته مشوبة بعبارة الكتّاب، وهو شديد التعصّب على أهل الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطّبّ والتنجيم والموسيقى والمنطق والعدد، وليس عنده بالجزء الإلهي خبر، ولا له فيه عين ولا أثر، وهو حسن القيام بالعروض والقوافي، ويقول الشّعر، وليس بذاك، وفي بديهته غزارة. وأما رويّته فخوّارة، وطالعه الجوزاء، والشّعرى قريبة منه، ويتشيّع لمذهب أبي حنيفة ومقالة الزّيديّة، ولا يرجع إلى الرقّة والرأفة والرحمة، والناس كلّهم محجمون عنه، لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته، شديد العقاب طفيف الثواب، طويل العتاب، بذيء اللسان، يعطي كثيرا قليلا (أعني يعطي الكثير القليل) ، مغلوب بحرارة الرأس، سريع الغضب، بعيد الفيئة قريب الطّيرة، حسود حقود حديد، وحسده وقف على أهل الفضل، وحقده سار إلى أهل الكفاية، أمّا الكتّاب والمتصرّفون فيخافون سطوته، وأمّا المنتجعون فيخافون جفوته، وقد قتل خلقا، وأهلك ناسا، ونفى أمّة، نخوة وتعنّتا وتجبّرا وزهوا، وهو مع هذا يخدعه الصبيّ، ويخلبه الغبيّ، لأنّ المدخل عليه واسع، والمأتى إليه سهل، وذلك بأن يقال: مولانا يتقدّم بأن أعار شيئا من كلامه، ورسائل منثوره ومنظومه، فما جبت الأرض إليه من فرغانة ومصر وتفليس إلّا لأستفيد كلامه وأفصح به، وأتعلّم البلاغة منه، لكأنّما رسائل مولانا سور قرآن، وفقره فيها آيات فرقان، واحتجاجه من ابتدائها إلى انتهائها برهان فوق برهان، فسبحان من جمع العالم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص. فيلين عند ذلك ويذوب، ويلهى عن كلّ مهمّ له، وينسى كلّ فريضة عليه ويتقدم إلى الخازن بأن يخرج إليه رسائله مع الورق والورق ويسهّل له الإذن عليه، والوصول إليه، والتمكّن من مجلسه، فهذا هذا.

ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعرا، ويدفعه إلى أبي عيسى بن المنجّم، ويقول: قد نحلتك هذه القصيدة، امدحني بها في جملة الشعراء، وكن الثالث من

<<  <   >  >>