للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الهمج المنشدين. فيفعل أبو عيسى- وهو بغداديّ محكّك «١» قد شاخ على الخدائع وتحنّك- وينشد، فيقول له عند سماعه شعره في نفسه ووصفه بلسانه، ومدحه من تحبيره: أعد يا أبا عيسى، فإنّك- والله- مجيد زه يا أبا عيسى والله، قد صفا ذهنك، وزادت قريحتك، وتنقّحت قوافيك، ليس هذا من الطّراز الأوّل حين أنشدتنا في العيد الماضي، مجالسنا تخرّج الناس وتهب لهم الذكاء، وتزيد لهم الفطنة، وتحوّل الكودن «٢» عتيقا، والمحمّر جوادا، ثم لا يصرفه عن مجلسه إلّا بجائزة سنيّة، وعطيّة هنيّة، ويغيظ الجماعة من الشعراء وغيرهم، لأنّهم يعلمون أن أبا عيسى لا يقرض مصراعا ولا يزن بيتا ولا يذوق عروضا.

قال يوما: من في الدار؟ فقيل له: أبو القاسم الكاتب وابن ثابت، فعمل في الحال بيتين، وقال لإنسان بين يديه: إذا أذنت لهذين فادخل بعدهما بساعة وقل: «قد قلت بيتين، فإن رسمت لي إنشادهما أنشدت» وازعم أنّك بدهت بهما، ولا تجزع من تأفّفي بك، ولا تفزع من نكري عليك، ودفع البيتين إليه، وأمره بالخروج إلى الصحن، وأذن للرّجلين حتى وصلا، فلما جلسا وأنسا دخل الآخر على تفيئتهما، ووقف للخدمة، وأخذ يتلمّظ يري أنّه يقرض شعرا، ثم قال: يا مولانا، قد حضرني بيتان، فإن أنت أذنت لي أنشدت. قال: أنت إنسان أخرق سخيف، لا تقول شيئا فيه خير، اكفني أمرك وشعرك. قال: يا مولانا، هي بديهتي، فإن نكرتني ظلمتني، وعلى كلّ حال فاسمع، فإن كانا بارعين وإلّا فعاملني بما تحبّ. قال: أنت لجوج، هات. فأنشد:

يأيّها الصاحب تاج العلا ... لا تجعلنّي نهزة الشامت

بملحد يكنى أبا قاسم ... ومجبر يعزى إلى ثابت

قال: قاتلك الله، لقد أحسنت وأنت مسيء. قال لي أبو القاسم: فكدت أتفقّأ غيظا، لأنّي علمت أنها من فعلاته المعروفة، وكان ذلك الجاهل لا يقرض بيتا. ثم حدّثني الخادم الحديث بنصّه.

والذي غلّطه في نفسه وحمله على الإعجاب بفضله والاستبداد برأيه، أنّه لم يجبه قطّ بتخطئة، ولا قوبل بتسوئة، ولا قيل له: أخطأت أو قصّرت أو لحنت أو غلطت أو أخللت، لأنّه نشأ على أن يقال له: أصاب سيّدنا، وصدق مولانا، ولله درّه، ولله بلاؤه، ما رأينا مثله، ولا سمعنا من يقاربه، من (ابن عبدكان) مضافا إليه؟

ومن (ابن ثوابة) مقيسا عليه؟ ومن (إبراهيم بن العباس) الصّوليّ [إذا جمع بينهما؟] من (صريع الغواني) من (أشجع السّلميّ) إذا سلك طريقهما، ومتح برشائهما، وقدح بزندهما؟ قد استدرك مولانا على (الخليل) في العروض، وعلى (أبي عمرو بن

<<  <   >  >>