وقال- أدام الله أيّامه- في ليلة أخرى: كنت أحبّ أن أسمع كلاما في كنه الاتّفاق وحقيقته، فإنّه مما يحار العقل فيه، ويزلّ حزم الحازم معه، وأحبّ أيضا أن أسمع حديثا غريبا فيه، فكان الجواب: إن الرواية في هذا الباب أكثر وأفشى من الاطلاع على سرّه، والظفر بمكنونه، فقال: هات ما يتعلّق بالرواية.
قلت: حكى لنا أبو سليمان في هذه الأيام أنّ ثيودسيوس ملك يونان كتب إلى إيبقس الشاعر أن يزوّده بما عنده من كتب فلسفيّة، فجمع ماله في عيبة ضخمة، وارتحل قاصدا نحوه، فلقى في تلك البادية قوما من قطّاع الطريق، فطعموا في ماله وهمّوا بقتله، فناشدهم الله ألّا يقتلوه وأن يأخذوا ماله ويخلّوه، فأبوا، فتحيّر ونظر يمينا وشمالا يلتمس معينا وناصرا فلم يجد، فرفع رأسه إلى السماء، ومدّ طرفه في الهواء، فرأى كراكيّ تطير في الجوّ محلّقة، فصاح: أيتها الكراكيّ الطائرة، قد أعجزني المعين والناصر، فكوني الطالبة بدمي، والآخذة بثأري. فضحك اللّصوص، وقال بعضهم لبعض: هذا أنقص الناس عقلا، ومن لا عقل له لا جناح في قتله، ثمّ قتلوه وأخذوا ماله واقتسموه وعادوا إلى أماكنهم، فلمّا اتّصل الحديث بأهل مدينته حزنوا وأعظموا ذلك، وتبعوا أثر قاتله واجتهدوا فلم يغنوا شيئا ولم يقفوا على شيء، وحضر اليونانيون وأهل مدينته إلى هيكلهم لقراءة التسابيح والمذاكرة بالحكمة والعظة، وحضر الناس من كلّ قطر وأوب، وجاء القتلة واختلطوا بالجمع، وجلسوا عند بعض أساطين الهيكل، فهم على ذلك إذ مرّت بهم كراكيّ تتناغى وتصيح، فرفع اللصوص أعينهم ووجوههم إلى الهواء ينظرون ما فيه فإذا كراكيّ تصيح وتطير، وتسدّ الجوّ، فتضاحكوا، وقال بعضهم لبعض: هؤلاء طالبو دم إيبقس الجاهل- على طريق الاستهزاء- فسمع كلامهم بعض من كان قريبا منهم فأخبر السلطان فأخذهم وشدّد عليهم، وطالبهم فأقرّوا بقتله، فقتلهم، فكانت الكراكيّ المطالبة بدمه، لو كانوا يعقلون أنّ الطالب لهم بالمرصاد.
وقال لنا أبو سليمان: إن إيبقس وإن كان خاطب الكراكيّ فإنّه أشار به إلى ربّ الكراكيّ وخالقها، ولم يطلّ الله دمه ولا سدّ عنه باب إجابته، فسبحانه كيف يهيّئ الأسباب، ويفتح الأبواب، ويرفع الحجاب بعد الحجاب.