للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الليلة الرابعة عشرة]

ومرّ بعد ذلك في عرض السّمر: ما تقلّد امرؤ قلادة أفضل من سكينة. فقال:

ذكّرتني شيئا كنت مهتمّا به قديما، والآن قرعت إليّ بابه، ما السكينة؟ فإني أرى أصحابنا يردّدون هذا الاسم ولا يبسطون القول فيه.

فكان من الجواب:

سألت أبا سليمان عن السكينة ما هي؟ فقال: السكائن كثيرة: طبيعيّة، ونفسيّة وعقليّة، وإلهيّة. ومجموعة من هذه بأنصباء مختلفة، ومقادير متفاوتة ومتباعدة.

والسكينة الطبيعيّة اعتدال المزاج بتصالح الأسطقسّات، تحدث به لصاحبه شارة تسمّى الوقار، ويكون للعقل فيها أثر باد، وهو زينة الرّواء المقبول.

والسكينة النفسية مماثلة الرّويّة للبديهة، ومواطأة البديهة للرويّة، وقصد الغاية بالهيئة المتناسبة، يحدث بها لصاحبها سمت ظاهر ورنوّ دائم وإطراق لا وجوم معه، وغيبة لا غفلة معها، وشهامة لا طيش فيها.

والسكينة العقليّة حسن قبول الاستفاضة بنسبة تامة إلى الإفاضة، ومعنى هذا أن القابل مستغرق بقوّة المقبول منه، وبهذه الحال يحدث لصاحبها هدى يشتمل على وزن الفكر في طلب الحقّ مع سكون الأطراف في أنواع الحركات.

والسكينة الإلهية لا عبارة عنها على التحديد، لأنها كالحلم في الانتباه وكالإشارة في الحلم، وليست حلما ولا انتباها في الحقيقة، لأن هذين نعتان محمودان في عالم السيلان والتبدّل، جاريان على التخيل والتجوّز بزوائد لا ثبات لها ونواقص لا مبالاة بها، روحانيّة في روحانيّة، كما يقال: «هذا صفو هذا» ، و «هذا صفو الصّفو» ومن لحظ هذه الكيفية وبوشر صدره بهذه الحقيقة استغنى عن رسوم محدودة بألف ولام، وحقائق مكنونة في عرض الكلام، وإذا جهلنا أشياء هي لأهل الأنس بلغات قد فطروا عليها، وعبارات أنسوا بها، كيف نجد السّبيل إلى الإفصاح والإشارة إليها.

فهذا باب واضح، والطمع في نيله نازح، وإذا كان المنال صعبا في الموضع الذي عمدنا إليه، فكيف يكون حالنا في البحث عما في حيّز الألوهيّة وبحبوحة الرّبوبيّة، ولا كون هناك ولا ما نسبته للكون، وأقوى ما في أيدينا أن نتعلّل بالوجود،

<<  <   >  >>