فالموجود والوجدان والجود، وهذه كلّها غليظة بالإضافة إلينا وفوق الدقيقة بالإضافة إلى أعيانها.
فعلى هذا: الصمت أوجد للمراد من النّطق، والتسليم أظفر بالبغية من البحث.
قال البخاريّ: فشيء كهذا بدقيقه وإشكاله، وغموضه وخفائه، كيف يظهر على جبلّة بشريّة وبنية طينيّة وكمّيّة مادّيّة وكيفيّة عنصريّة؟
فقال: يا هذا، إنما يشعّ من هذه السكينة على قدر ما استودع صاحبها من نور العقل، وقبس النفس، وهبة الطبيعة، وصحّة المزاج، وحسن الاختيار واعتدال الأفعال، وصلاح العادة، وصحة الفكرة، وصواب القول، وطهارة السرّ ومساواته للعلانية، وغلبته بالتوحّد، وانتظام كلّ صادر منه ووارد عليه.
وهاهنا تمّحى الجبلّة البشريّة، وتتبدّد الجبلّة الطّينيّة، وتبيد الكميّة المادّيّة وتعفو الكيفيّة العنصريّة، ويكون السلطان والولاية والتصريف والسياسة كلّها لتلك السكينة التي قدّمنا وصفنا لها، واشتدّ وجدنا بها، وطال شوقنا إليها ودام تحديقنا نحوها، واتصل رنوّنا إليها، وتناهت نجوانا بذكرها.
وهذا هو الخلع الّذي سمعت بذكره، واللّباس الذي سألت عنه، أعني خلع ما أنت منه إنسان، ولبس ما أنت به ملك. الله المستغاث منكم، ما أشدّ بلواي بكم، لم [لا] تتحرّكون إلا إلى ما لا سكون لكم فيه؟ ولم تسألون عمّا لا اطلاع لكم عليه؟
سلوا ربّكم أعينا بصيرة، وآذانا واعية، وصدورا طاهرة، وقوّة متتابعة، فإنكم إذا منحتموها هديتم لها، وإذا حرمتموها قطعتم دونها، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.
قال البخاريّ: وقد تركنا يا سيّدنا حديث السكينة المجموعة من هذه الجملة بأنصباء مختلفة.
فقال: لا عجب أن ينشأ العالم بكلّ ما فيه في هذه الحومة التي لذنا بها وحاولنا الوصول إليها، وأيّ شيء أعجب في هذا المقام، ورسم أو قوام، أو ثبات أو دوام، إلّا له نصيب من عناية الله تعالى الكريم.
نعم، والسكينة المجموعة من كلّ ما سلف القول فيه تقاسمها نوع الإنسان بالزيادة والنقصان، والغموض والبيان، والقلّة والكثرة، والضّعف والقوّة، وهذا يتبيّن بأن تقسم الطيش والحدّة والعجلة والخفّة على أصحابها، فتجد التفاوت ظاهرا.
وكذلك إذا قسمت الهدوء والقرار والسكون والوقار على أهلها، فإنك تجد التباين مكشوفا والاختلاف ظاهرا.
ثم قال: أما السكينة الّتي هي في أعلى المراتب فهي لأشخاص هم فوق البشر،