للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الليلة السابعة والثلاثون]

وقال الوزير ليلة: ما أحوج الجبان إلى أن يسمع أحاديث الشّجعان! وما أشدّ انتفاع الضّيّق النّفس باستماع أخبار الكرام، لأنّ الأخلاق في الخلق أعراض، والأعراض منها لازم ومنها لاصق.

قال: وكان عيسى بن زرعة سرد عليّ سنة سبعين، ليالي كانت الأشغال خفيفة، والسّياسة بالماضي- نوّر الله قبره وضريحه- عامّة، والنّظر بالحسنى، شاملا- أشياء في الخلق أتى بها على عمود ما كان في نفسي، وذلك أنه ذكر العقل والحمق، والعلم والجهل، والحلم والسّخف، والقناعة والشّره، والحياء والقحة، والرّحمة والقسوة، والأمانة والخيانة، والتّيقّظ والغفلة، والتّقى والفجور، والجرأة والجبن، والتواضع والكبر، والوفاء والغدر، والنصيحة والغشّ، والصّدق والكذب، والسّخاء والبخل، والأناة والبطش، والعدل والجور، والنّشاط والكسل، والنّسك والفتك، والحقد والصّفح، وينبغي أن تزور عيسى وتذكر له هذه الجملة، وتبعثه على إعادة حدودها، وإشباع القول فيها، مع إيجاز لا يكون به مدخل للخلل، ولا تقصير عن إيصال الآخر بالأوّل.

فلقيت عيسى وعرّفته الحديث، وأملى ما رسمته في هذا الجزء، وعرضته على أبي سليمان، فرضيه بعض الرّضا، ولم يسخط كلّ السّخط، وقال: تحديد الأخلاق لا يصحّ إلّا بضرب من التجوّز والتسمّح، وذلك أنّها متلابسة تلابسا، ومتداخلة تداخلا، والشيء لا يتميّز عن غيره إلّا بينونة واقعة تظهر للحسّ اللّطيف، أو تتّضح للعقل الشّريف.

ثم قال: ألا ترى أنّ الفكر مشوب بالرّويّة، والظّنّ مخلوط بالوهم، والذّكر معنيّ بالتّخيّل، والبديهة جانحة إلى الحسّ، والاستنباط موصوف بالغوص، وما هذا المعنى الذي ميّز التّواضع من شوب الضّعة، أو خلّص علوّ الهمّة من شوب الكبر، أو فرز عزّة النّفس من نقص العجب، أو أبان الحلم عن بعض الضّعف؟! هذا بالقول ربّما سهل وانقاد، ولكن بالعقل ربّما عزّ واعتاص، والأخلاق والخلق مختلطة، فمنها ما اختلاطه قويّ شديد، ومنها ما اختلاطه ضعيف سهل، ومنها ما اختلاطه نصف بين اللّين والشّدّة، وهذه ينفع العلاج في بعضها، وينبو العلاج عن بعضها، والحزم يقضي بألّا يتهاون بما يقبل العلاج لأجل ما لا يقبل العلاج.

<<  <   >  >>