للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الليلة الثانية والعشرون]

وقال لي مرّة أخرى: ارو لي شيئا من كلام أبي الحسن العامريّ، فإني أرى أصحابنا يرذّلونه ويذيلونه، فلا يرون له في هذه العصبة قدما، ولا يرفعون له في هذه الطائفة علما.

فقلت: كان الرجل لكزازته وغلظ طباعه وجفاء خلقه ينفّر من نفسه، ويغري الناس بعرضه، فإذا طلب منه الفنّ الذي قد خصّ به وطولب بتحقيقه وجد على غاية الفضل.

فمن كلامه قوله: الطبيعة تتدرّج في فعلها من الكلّيّات البسيطة، إلى الجزئيّات المركّبة، والعقل يتدرّج من الجزئيّات المركّبة، إلى البسائط الكلّيّة، والإحاطة بالمعاني البسيطة تحتاج إلى الإحاطة بالمعاني المركّبة، ليتوصّل بتوسّطها إلى إثبات إنّيّاتها، والإحاطة بالمعاني المركّبة تحتاج إلى الإحاطة بالمعاني البسيطة ليتوصّل بتوسطها إلى تحقيق إثباتها. وكما أن القوّة الحسّيّة عاجزة بطباعها عن استخلاص البسائط الأوائل، بل تحتاج معها إلى القوّة العاقلة، وإن قويت لصار العقل فضلا- كذلك أيضا القوّة العاقلة لا تقوى بذاتها على إثبات إنّيّاتها المركّبات إلا من جهة القوة الحسّاسة، ولو قويت عليه لصار الحسّ فضلا للعاقلة.

قال: هذا كلام بارع من صدر واسع، وأحبّ أن تزيدني من نمطه.

قلت: وقال أيضا: الكلّيّ مفتقر إلى الجزئي لا لأن يصير بديمومته محفوظا بل لأن يصير بتوسّطه موجودا، والجزئي مفتقر إلى الكلّيّ لا لأن يصير بتوسّطه موجودا، بل لأن يصير بديمومته محفوظا.

وقال: الحال في جميع السّبل- أعني مسالك الأشياء في تكوّنها صناعيّة كانت أو تدبيريّة أو طبيعيّة أو اتفاقية- واحدة، مثاله أنّ الإنسان وإنّ التذّ بالدّستنبان «١» فلن يعدّ موسيقارا إلّا إذا تحقّق بمبادئه الأول التي هي الطّنينات وأنصاف الطّنينات، وكذلك الإنسان وإن استطاب الحلو فلن يسمّى حلوانيّا إلّا إذا عرف بسائطه وأسطقسّاته.

وقال: العلم لا يحيط بالشيء إلّا إذا عرف مبادئه القريبة والبعيدة والمتوسّطة.

<<  <   >  >>