ولما عدت إليه في مجلس آخر، قال: سمعت صياحك اليوم في الدار مع ابن عبيد، ففيم كنتما؟
قلت: كان يذكر أن كتابة الحساب أنفع وأفضل وأعلق بالملك، والسلطان إليه أحوج، وهو بها أغنى من كتابة البلاغة والإنشاء والتحرير، فإذا الكتابة الأولى جدّ، والأخرى هزل، ألا ترى أنّ التشادق والتفيهق والكذب والخداع فيها أكثر، وليس كذلك الحساب والتحصيل والاستدراك والتفصيل. قال: وبعد هذا فتلك صناعة معروفة بالمبدأ، موصولة بالغاية، حاضرة الجدوى، سريعة المنفعة، والبلاغة زخرفة وحيلة، وهي شبيهة بالسّراب، كما أن الأخرى شبيهة بالماء. قال: ومن خساسة البلاغة أنّ أصحابها يسترقعون ويستحمقون، وكان الكتّاب قديما في دور الخلفاء ومجالس الوزراء يقولون: اللهم إنا نعوذ بك من رقاعة المنشئين، وحماقة المعلّمين، وركاكة النحويّين، والمنشئ والمعلّم والنحويّ إخوة وإن كانوا لعلّات، والآفة تشملهم والعادة تجمعهم، والنقص يغمرهم، وإن اختلفت منازلهم، وتباينت أحوالهم. قال:
ولو لم يكن من صنعة الإنشاء إلا أنّ المملكة العريضة الواسعة يكتفى فيها بمنشئ واحد، ولا يكتفى فيها بمائة كاتب حساب ... وإذا كانت الحاجة إلى هذه أمسّ، كانت الأخرى في نفسها أخسّ، وبعد، فمصالح أحوال العامّة والخاصّة معلّقة بالحساب، على هذه الجديلة والوتيرة يجري الصغار والكبار والعلية والسّفلة، وما زال أهل الحزم والتجارب يحثّون أولادهم ومن لهم به عناية على تعلّم الحساب، ويقولون لهم: هو سلّة الخبز. وهذا كلام مستفيض، ومن عبر عما في نفسه بلفظ ملحون أو محرّف أو موضوع غير موضعه وأفهم غيره، وبلغ به إرادته، وأبلغ غيره، فقد كفى، والزائد على الكفاية فضل والفضل يستغنى عنه كثيرا، والأصل يفتقر إليه شديدا، قال:
ومن آفات هذه الكتابة أن أصحابها يقرفون بالريبة، ويرمون بالآفة، كآل الحسن بن وهب وآل ابن ثوابة.
قال: هذه ملحمة منكرة، فما كان من الجواب؟
قلت: ما قام من مجلسه إلا بعد الذلّ والقماءة، وهكذا يكون حال من عاب القمر بالكلف، والشمس بالكسوف، وانتحل الباطل ونصر المبطل، وأبطل الحقّ