ثم حضرت ليلة أخرى، فقال: أوّل ما أسألك عنه حديث أبي سليمان المنطقيّ كيف كان كلامه فينا، وكيف كان رضاه عنّا ورجاؤه بنا، فقد بلغني أنّك جاره ومعاشره، ولصيقه وملازمه وقافي خطوه وأثره، وحافظ غاية خبره.
فقلت: والله أيّها الوزير، ما أعرف اليوم ببغداد- وهي الرّقعة الفسيحة الجامعة، والعرصة «١» العريضة الغاصّة- إنسانا أشكر لك، وأحسن ثناء عليك، وأذهب في طريق العبوديّة معك، منه، ولقد سكر الآذان وملأ البقاع بالدعاء الصالح، رفعه الله إليه، والثناء الطيّب أشاعه الله، وقد عمل رسالة في وصفك ذكر فيها ما آتاك الله وفضّلك به من شرف أعراقك، وكرم أخلاقك وعلوّ همّتك، وصدق حدسك وصواب رأيك، وبركة نظرك، وظهور غنائك، وخصب فنائك، ومحبّة أوليائك، وكمد أعدائك، وصباحة وجهك، وفصاحة لسانك، ونبل حسبك، وطهارة غيبك، ويمن نقيبتك، ومحمود شيمتك، ودقيق ما أودع الله فيك وجليل ما نشر الله عنك، وغريب ما يرى منك، وبديع ما ينتظر لك من المراتب العليّة، والخيرات الواسعة والدولة الوادعة، وهي تصل إلى مجلسكم في غد أو بعده- إن شاء الله- وكان هذا منه قياما بالواجب، فإنك نعشت روحه وكان خفت، وبصّرته وكان عشي، وأنبتّ جناحه وكان قد حصّ، وبالرسم الذي وصل إليه لأنه كان قنط منه وهو قنوط، وسمعته يقول مرارا: من يذكرني وقد مضى الملك- رضوان الله عليه- ومن يخلفه في مصلحتي، ويجري على عادته معي؟ ومن يسأل عنّي، ويهتمّ بحالي؟ هيهات، فقد والله بالأمس من يطول تلفّتنا إليه ويدوم تلهّفنا عليه، إنّ الزمان بمثله لبخيل، كان والله شمس المعالي وغرة الزمن وحامل الأثقال، وملتقى القفّال، ومحقّق الأقوال والأفعال، ومجري لجم الأحوال على غاية الكمال، كان والله فوق المتمنّى، وأعلى من أن يلحق به نظير، أو يوجد له مماثل، لذّته لمح في تهذيب الأمور، وهواه وقف على صلاح من في إصلاحه صلاح ونفي من في نفيه تطهير، ولولا أن عمر الفتى الأريحيّ قصير، لكنّا لا نبتلي بفقده، ولا نتحرّق على فوت ما كان لنا بحياته، الدنيا ظلوم، والإنسان فيها مظلوم.