للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الليلة الثامنة]

وقال لي مرّة أخرى: أوصل وهب بن يعيش الرقيّ اليهوديّ رسالة يقول في عرضها بعد التقريظ الطويل العريض: إن هنا طريقا في إدراك الفلسفة مذلّلة مسلوكة مختصرة فسيحة، ليس على سالكها كدّ ولا شقّ في بلوغ ما يريد من الحكمة ونيل ما يطلب من السعادة وتحصيل الفوز في العاقبة، وإنّ أصحابنا طوّلوا وهوّلوا وطرحوا الشوك في الطريق، ومنعوا من الجواز عليه غشّا منهم وبخلا ولؤم طباع وقلة نصح وإتعابا للطالب وحسدا للراغب، وذلك أنّهم اتّخذوا المنطق والهندسة وما دخل فيهما معيشة ومكسبة، ومأكلة ومشربة، فصار ذلك كسور من حديد لطلّاب الحكمة والمحبّين للحقيقة والمتصفّحين لأثناء العالم، وكلاما هذا معناه، وإلى هذا يرجع مغزاه.

فكان من الجواب: قد عرفت مذهب ابن يعيش في هذا الباب، وهو جاري، وكتب هذه الرسالة على هذا الطراز بالأمس إلى الملك السعيد سنة سبعين، وتقرّب بها، ونفعته بالمسألة والتفقّد له، فإنّه شديد الفقر، ظاهر الخصاصة، لاصق بالدّقعاء، وللّذي قاله وادّعاه، وقصده وانتحاه، وجه واضح وحجّة ظاهرة، وللّذي قاله أصحابنا- أعني مخالفيه- وجه أيضا وتأويل وللقولين أنصار وحماة، وحفظة ورعاة.

قال: هات- على بركة الله- فإنّي أحب أن أسمع في هذا الخطب كلّ ما فيه وأكثر ما يتّصل به، فكان من الجواب أن ابن يعيش يريد بهذه الخطبة أنّ عمر الإنسان قصير، وعلم العالم كثير، وسرّه مغمور، وكيف لا يكون كذلك وهو ذو صفائح مركّبة بالوضع المحكم، وذو نضائد مزيّنة بالتأليف المعجب المتقن، والإنسان الباحث عنه وعمّا يحتويه ذو قوى متقاصرة، وموانع معترضة، ودواع ضعيفة، وإنه مع هذه الأحوال منتبه بالحسّ، حالم بالعقل، عاشق للشاهد، ذاهل عن الغائب، مستأنس بالوطن الّذي ألفه ونشأ فيه، مستوحش من بلد لم يسافر إليه ولم يلمّ به وإن كان صدر عنه، فليس له بذلك معرفة باقية ولا ثقة تامّة، وإن الأولى بهذا الإنسان المنعوت بهذا الضّعف والعجز أن يلتمس مسلكا إلى سعادته ونجاته قريبا ويعتصم بأسهل الأسباب على قدر جهده وطوقه، وإن أقرب الطرق وأسهل الأسباب هو في معرفة الطبيعة والنفس والعقل والإله تعالى، فإنه متى عرف هذه الجملة بالتفصيل، واطّلع على هذا التفصيل بالجملة، فقد فاز الفوز الإكبر ونال الملك الأعظم، وكفي مؤونة عظيمة في

<<  <   >  >>