للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الليلة الأربعون]

وقال مرّة أخرى: حدّثني عن اعتقادك في أبي تمّام والبختريّ.

فكان الجواب: إن هذا الباب مختلف فيه، ولا سبيل إلى رفعه، وقد سبق هذا من الناس في الفرزدق وجرير ومن قبلهما في زهير والنابغة حتّى تكلم على هذا الصدر الأول، مع علوّ مراتبهم في الدّين والعقل والبيان، لكن حدّثنا أبو محمد العروضيّ عن أبي العبّاس المبرّد قال: سألني عبيد الله بن سليمان عن أبي تمّام والبحتريّ، فقلت:

أبو تمّام يعلو علوّا رفيعا، ويسقط سقوطا قبيحا، والبحتريّ أحسن الرجلين نمطا، وأعذب لفظا، فقال عبيد الله:

قد كان ذلك ظنّي ... فعاد ظنّي يقينا

فقلت: وهذا أيضا شعر. فقال: ما علمت.

فقال: هذه حكاية مفيدة من هذا العالم المتقدّم، وحكم يلوح منه الإنصاف، وقد أغنى هذا القول عن خوض كثير.

ودع ذا، من أين دخلت الآفة على أصحاب المذاهب حتى افترقوا هذا الافتراق، وتباينوا هذا التّباين، وخرجوا إلى التكفير والتفسيق وإباحة الدّم والمال وردّ الشّهادة وإطلاق اللّسان بالجرح وبالقذع والتّهاجر والتّقاطع! فكان الجواب: إنّ المذاهب فروع الأديان، والأديان أصول المذاهب، فإذا ساغ الاختلاف في الأديان- وهي الأصول- فلم لا يسوغ في المذاهب وهي الفروع.

فقال: ولا سواء، الأديان اختلفت بالأنبياء، وهم أرباب الصّدق والوحي الموثوق به، والآيات الدّالّة على الصّدق، وليس كذلك المذاهب.

فقيل: هذا صحيح، ولا دافع له، ولكن لمّا كانت المذاهب نتائج الآراء، والآراء ثمرات العقول، والعقول منائح الله للعباد، وهذه النتائج مختلفة بالصّفاء والكدر، وبالكمال والنّقص، وبالقلّة والكثرة، وبالخفاء والوضوح، وجب أن يجري الأمر فيها على مناهج الأديان في الاختلاف والافتراق وإن كانت تلك منوطة بالنبوّة، وبعد، فما دام الناس على فطر كثيرة، وعادات حسنة وقبيحة، ومناشئ محمودة ومذمومة، وملاحظات قريبة وبعيدة، فلابدّ من الاختلاف في كلّ ما يختار ويجتنب،

<<  <   >  >>