ثم حضرته ليلة أخرى فأول ما فاتح به المجلس أن قال: أتفضّل العرب على العجم أم العجم على العرب؟
قلت: الأمم عند العلماء أربع: الروم، والعرب، وفارس، والهند، وثلاث من هؤلاء عجم، وصعب أن يقال: العرب وحدها أفضل من هؤلاء الثلاثة، مع جوامع ما لها، وتفاريق ما عندها.
قال: إنّما أريد بهذا الفرس.
فقلت: قبل أن أحكم بشيء من تلقاء نفسي، أروي كلاما لابن المقفّع، وهو أصيل في الفرس عريق في العجم، مفضّل بين أهل الفضل، وهو صاحب (اليتيمة) القائل: تركت أصحاب الرسائل بعد هذا الكتاب في ضحضاح من الكلام.
قال: هات على بركة الله وعونه.
قلت: قال شبيب بن شبّة: إنّا لوقوف في عرصة المربد- وهو موقف الأشراف ومجتمع الناس وقد حضر أعيان المصر- إذ طلع ابن المقفّع، فما فينا أحد إلّا هشّ له، وارتاح إلى مساءلته، وسررنا بطلعته، فقال: ما يقفكم على متون دوابّكم في هذا الموضع؟ فو الله لو بعث الخليفة إلى أهل الأرض يبتغي مثلكم ما أصاب أحدا سواكم، فهل لكم في دار ابن برثن في ظلّ ممدود، وواقية من الشمس، واستقبال من الشّمال، وترويح للدّوابّ والغلمان، ونتمهّد الأرض فإنّها خير بساط وأوطؤه، ويسمع بعضنا من بعض فهو أمدّ للمجلس، وأدرّ للحديث. فسارعنا إلى ذلك، ونزلنا عن دوابنا في دار ابن برثن نتنسّم الشّمال، إذ أقبل علينا ابن المقفّع، فقال: أيّ الأمم أعقل؟ فظننا أنه يريد الفرس، فقلنا: فارس أعقل الأمم، نقصد مقاربته، ونتوخّى مصانعته. فقال: كلّا، ليس ذلك لها ولا فيها، هم قوم علّموا فتعلّموا، ومثّل لهم فامتثلوا واقتدوا وبدئوا بأمر فصاروا إلى اتّباعه، ليس لهم استنباط ولا استخراج. فقلنا له: الرّوم. فقال: ليس ذلك عندها، بل لهم أبدان وثيقة وهم أصحاب بناء وهندسة، لا يعرفون سواهما، ولا يحسنون غيرهما. قلنا: فالصّين. قال: أصحاب أثاث وصنعة، لا فكر لها ولا رويّة.
قلنا: فالتّرك. قال: سباع للهراش. قلنا: فالهند. قال: أصحاب وهم ومخرقة وشعبذة وحيلة. قلنا: فالزّنج. قال: بهائم هاملة. فرددنا الأمر إليه. قال: العرب. فتلاحظنا