وهمس بعضنا إلى بعض، فغاظه ذلك منّا، وامتقع لونه، ثم قال: كأنّكم تظنّون فيّ مقاربتكم، فو الله لوددت أنّ الأمر ليس لكم ولا فيكم ولكن كرهت إن فاتني الأمر أن يفوتني الصواب، ولكن لا أدعكم حتى أبيّن لكم لم قلت ذلك، لأخرج من ظنّة المداراة، وتوهّم المصانعة، إن العرب ليس لها أول تؤمّه ولا كتاب يدلّها، أهل بلد قفر، ووحشة من الإنس، احتاج كلّ واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله، وعلموا أنّ معاشهم من نبات الأرض فوسموا كلّ شيء بسمته، ونسبوه إلى جنسه وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه، وأوقاته وأزمنته، وما يصلح منه في الشاة والبعير، ثم نظروا إلى الزمان واختلافه فجعلوه ربيعيا وصيفيا، وقيظيا وشتويا، ثم علموا أنّ شربهم من السماء، فوضعوا لذلك الأنواء، وعرفوا تغيّر الزمان فجعلوا له منازله من السنة، واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض، فجعلوا نجوم السماء أدلّة على أطراف الأرض وأقطارها، فسلكوا بها البلاد، وجعلوا بينهم شيئا ينتهون به عن المنكر، ويرغّبهم في الجميل، ويتجنّبون به الدناءة ويحضّهم على المكارم، حتى إنّ الرجل منهم وهو في فجّ من الأرض يصف المكارم فما يبقي من نعتها شيئا، ويسرف في ذمّ المساوئ فلا يقصّر، ليس لهم كلام إلّا وهم يتحاضّون به على اصطناع المعروف ثم حفظ الجار وبذل المال وابتناء المحامد، كلّ واحد منهم يصيب ذلك بعقله، ويستخرجه بفطنته وفكرته فلا يتعلّمون ولا يتأدّبون، بل نحائز «١» مؤدّبة، وعقول عارفة، فلذلك قلت لكم: إنهم أعقل الأمم، لصحّة الفطرة واعتدال البنية وصواب الفكر وذكاء الفهم. هذا آخر الحديث، قال: ما أحسن ما قال ابن المقفّع! وما أحسن ما قصصته وما أتيت به! هات الآن ما عندك من مسموع ومستنبط.
فقلت: إن كان ما قال هذا الرجل البارع في أدبه المقدّم بعقله كافيا فالزيادة عليه فضل مستغنى عنه، وإعقابه بما هو مثله لا فائدة فيه.
فقال: حدّ الوصف في التزيين والتقبيح مختلف الدلائل على ما يعتقد صوابه وخطؤه، متباين، وهذه مسألة- أعني تفضيل أمّة على أمّة- من أمّهات ما تدارأ الناس عليه وتدافعو فيه، ولم يرجعوا منذ تناقلوا الكلام في هذا الباب إلى صلح متين واتفاق ظاهر.
فقلت: بالواجب ما وقع هذا، فإن الفارسيّ ليس في فطرته ولا عادته ولا منشئه أن يعترف بفضل العربيّ، ولا في جبلّة العربي وديدنه أن يقرّ بفضل الفارسيّ. وكذلك الهنديّ والروميّ والتركيّ والديلميّ، وبعد، فاعتبار الفضل والشرف موقوف على شيئين: أحدهما ما خص به قوم دون قوم في أيام النشأة بالاختيار للجيّد والرديء، والرأي الصائب والفائل، والنظر في الأوّل والآخر. وإذا وقف الأمر على هذا فلكلّ