فكان من الجواب أنّ كلّ مراد مختار، وليس كلّ مختار مرادا، لأنّ الإنسان يختار شرب الدواء الكريه وضرب الولد النّجيب وهو لا يريد، ويختار طرح متاعه في البحر إذا ألجئ وهو لا يريد، وهما وإن كانا انفعالين فأحدهما- وهو الاختيار- لا يحدث إلّا عن جولان وتنقير وتمييز، والآخر- وهو الإرادة- يفجأ ويبغت وربّما حمل على طلب المراد بالكره الشديد، وفي عرض الاختيار سعة للتمكّن، وليس ذلك في عرض الإرادة. والعرب تستعمل الإراغة في موضع الإرادة، والأوّل من راغ يروغ، والثاني من راد يرود، والهمزة مجتلبة للتّعدّي.
قال: فما الفرق بين المحبّة والشّهوة؟
فكان الجواب أن الشهوة ألصق بالطّبيعة، والمحبّة أصدر عن النفس الفاضلة، وهما انفعالان، إلا أنّ أحد الانفعالين أشدّ تأثّرا، وهو انفعال الشّهوة، وأنّه يقال:
شهي وأشهى، ويقال في الآخر: حبّ وأحبّ، ويتداخلان كثيرا بالاستعمال، لأنّ اللّغة جارية على التوسّع، كما هي جارية على التّضيّق، ومن ناحية التضيّق فزع إلى التّحديد والتّشديد، ومن ناحية التوسّع جري على الاقتدار والاختيار، وفي عرض هذين بلاء آخر، لأنّه بين الإيجاز والإطناب، وبين الكناية، والتصريح، وبين الإنجاز والإبطاء. فقال: هذا باب.
ثم ناولني رقعة بخطّه فيها مطالب نفيسة تأتي على علم عظيم، وقال: باحث عنها أبا سليمان وأبا الخير ومن تعلم أن في مجاراته فائدة من عالم كبير، ومتعلّم صغير، فقد يوجد عند الفقير بعض ما لا يوجد عند الغنيّ، ولا تحقر أحدا فاه بكلمة من العلم، أو أطاف بجانب من الحكمة، أو حكم بحال من الفضل، فالنّفوس معادن، وحصّل ذلك كلّه وحرّره في شيء وجئني به، وكان في الرّقعة:
ما النّفس؟ وما كمالها؟ وما الّذي استفادت في هذا المكان؟ وبأيّ شيء باينت الرّوح؟ وما الرّوح؟ وما صفته؟ وما منفعته؟ وما المانع من أن تكون النفس جسما أو عرضا أو هما؟ وهل تبقى؟ وإن كانت تبقى فهل تعلم ما كان الإنسان فيه هاهنا؟ وما الإنسان؟ وما حدّه؟ وهل الحدّ هو الحقيقة، أم بينهما بون؟ وما الطبيعة، وهلّا أغنى