ثم عدت وقتا آخر فقال: كنت حكيت لي أنّ العامريّ صنّف كتابا عنونه (بإنقاذ البشر من الجبر والقدر) ، فكيف هذا الكتاب؟
فقلت: هذا الكتاب رأيته بخطّه عند صديقنا وتلميذه أبي القاسم الكاتب ولم أقرأه على العامريّ، ولكن سمعت أبا حاتم الرازي يقرؤه عليه، وهو كتاب نفيس، وطريقة الرجل قويمة، ولكنه ما أنقذ البشر من الجبر والقدر، لأن الجبر والقدر اقتسما جميع الباحثين عنهما والناظرين فيهما.
قال: لم قيل الجبر والقدر ولم يقل الإحبار.
فكان الجواب: أن الإجبار لغة قوم، والجبر لغة تميم، يقال: جبر الله الخلق وأجبر الخلق، وجبر بمعنى جبل، واللام تعاقب الراء كثيرا.
قال: فتكلّم في هذا الباب بشيء يكون غير ما قاله العامريّ، وانقد له إن كان الحق فيما ذهب إليه ودل عليه.
فكان من الجواب: أن من لحظ الحوادث والكوائن والصوادر والأواتي من معدن الألهيات أقرّ بالجبر وعرّى نفسه من العقل والاختيار والتصرّف والتصريف، لأن هذه وإن كانت ناشئة من ناحية البشر، فإنّ منشأها الأوّل إنّما هو من الدواعي والبواعث والصوارف والموانع التي تنسب إلى الله الحقّ، فهذا هذا.
فأمّا من نظر إلى هذه الأحداث والكائنات والاختيارات والإرادات من ناحية المباشرين الكاسبين الفاعلين المحدثين اللائمين الملومين المكلّفين، فإنّه يعلّقها بهم ويلصقها برقابهم، ويرى أنّ أحدا ما أتي إلّا من قبل نفسه وبسوء اختياره وبشدّة تقصيره وإيثار شقائه.
والملحوظان صحيحان واللاحظان مصيبان، لكنّ الاختلاف لا يرتفع بهذا القول والوصف، لأنه ليس لكل أحد الوصول إلى هذه الغاية، ولا لكلّ إنسان اطلاع إلى هذه النهاية.
فلما وقعت البينونة بين الناظرين بالطبع والنسبة لم يرتفع القال والقيله من ناحية القول والصّفة، فهذا هذا.
قال- أطال الله بقاءه:- فما الفرق بين القضاء والقدر؟