للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الليلة الخامسة والعشرون]

وقال- أدام الله دولته- ليلة: أحبّ أن أسمع كلاما في مراتب النّظم والنّثر، وإلى أيّ حدّ ينتهيان، وعلى أيّ شكل يتّفقان، وأيّهما أجمع للفائدة، وأرجع بالعائدة، وأدخل في الصّناعة، وأولى بالبراعة؟؟

فكان الجواب: إنّ الكلام على الكلام صعب. قال: ولم؟ قلت: لأنّ الكلام على الأمور المعتمد فيها على صور الأمور وشكولها التي تنقسم بين المعقول وبين ما يكون بالحسّ ممكن، وفضاء هذا متّسع، والمجال فيه مختلف. فأمّا الكلام على الكلام فإنّه يدور على نفسه، ويلتبس بعضه ببعضه، ولهذا شقّ النّحو وما أشبه النّحو من المنطق، وكذلك النّثر والشّعر وعلى ذلك.

وقد قال الناس في هذين الفنّين ضروبا من القول لم يبعدوا فيها من الوصف الحسن، والإنصاف المحمود، والتّنافس المقبول، إلّا ما خالطه من التعصّب والمحك، لأنّ صاحب هذين الخلقين لا يخلو من بعض المكابرة والمغالطة وبقدر ذلك يصير له مدخل فيما يراد تحقيقه من بيان الحجة أو قصورها عما يرام من البلوغ بها، وهذه آفة معترضة في أمور الدّين والدّنيا، ولا مطمع في زوالها، لأنّها ناشئة من الطّبائع المختلفة، والعادات السّيّئة، لكنّي مع هذه الشّوكة الحادّة، والخطّة الكادّة، أقول ما وعيته عن أرباب هذا الشّأن، والمنتمين لهذا الفن، وإن عنّ شيء يكون شكلا لذلك وصلته به تكميلا للشّرح، واستيعابا للباب، وصمدا «١» للغاية، وأخذا بالحياطة، وإن كان المنتهى منه غير مطموع فيه، ولا موصول إليه، والله المعين.

قال شيخنا أبو سليمان: الكلام ينبعث في أوّل مبادئه إمّا من عفو البديهة، وإمّا من كدّ الرّويّة، وإمّا أن يكون مركّبا منهما، وفيه قواهما بالأكثر والأقلّ، فضيلة عفو البديهة أنّه يكون أصفى، وفضيلة كدّ الرّويّة أنه يكون أشفى، وفضيلة المركّب منهما أنه يكون أوفى، وعيب عفو البديهة أن تكون صورة العقل فيه أقلّ، وعيب كدّ الرويّة أن تكون صورة الحسّ فيه أقلّ، وعيب المركّب منهما بقدر قسطه منهما: الأغلب والأضعف، على أنّه إن خلص هذا المركّب من شوائب التكلّف، وشوائن التّعسّف،

<<  <   >  >>