كان بليغا مقبولا رائعا حلوا، تحتضنه الصّدور، وتختلسه الآذان، وتنتهبه المجالس، ويتنافس فيه المنافس بعد المنافس، والتّفاضل الواقع بين البلغاء في النّظم والنّثر، إنما هو في هذا المركّب الذي يسمّى تأليفا ورصفا، وقد يجوز أن تكون صورة العقل في البديهة أوضح، وأن تكون صورة الحسّ في الرّويّة الوح إلا أنّ ذلك من غرائب آثار النّفس ونوادر أفعال الطّبيعة، والمدار على العمود الذي سلف نعته، ورسا أصله.
وسمعت أبا عائذ الكرخيّ صالح بن عليّ يقول: النّثر أصل الكلام، والنّظم فرعه، والأصل أشرف من الفرع، والفرع أنقص من الأصل، لكن لكلّ واحد منهما زائنات وشائنات، فأما زائنات النّثر فهي ظاهرة، لأنّ جميع النّاس في أوّل كلامهم يقصدون النّثر، وإنما يتعرضون للنّظم في الثاني بداعية عارضة، وسبب باعث، وأمر معيّن.
قال: ومن شرفه أيضا أنّ الكتب القديمة والحديثة النازلة من السّماء على ألسنة الرّسل بالتّأييد الإلهيّ مع اختلاف اللّغات كلّها منثورة مبسوطة، متباينة الأوزان، متباعدة الأبنية، مختلفة التصاريف، لا تنقاد للوزن، ولا تدخل في الأعاريض، هذا أمر لا يجوز أن يقابله ما يدحضه، أو يعترض عليه بما يحرضه «١» .
قال: ومن شرفه أيضا أن الوحدة فيه أظهر، وأثرها فيه أشهر، والتكلف منه أبعد، وهو إلى الصّفاء أقرب، ولا توجد الوحدة غالبة على شيء إلا كان ذلك دليلا على حسن ذلك الشيء وبقائه، وبهائه ونقائه.
قال: ومن فضيلة النّثر أيضا كما أنّه إلهي بالوحدة، كذلك هو طبيعيّ بالبدأة، والبدأة في الطّبيعيات وحدة، كما أنّ الوحدة في الإلهيّات بدأة، وهذا كلام خطير.
قال: ألا ترى أنّ الإنسان لا ينطق في أوّل حاله من لدن طفوليّته إلى زمان مديد إلا بالمنثور المتبدّد، والميسور المتردّد، ولا يلهم إلا ذاك، ولا يناغى إلا بذاك، وليس كذلك المنظوم، لأنه صناعيّ، ألا ترى أنّه داخل في حصار العروض وأسر الوزن وقيد التأليف، مع توقّي الكسر، واحتمال أصناف الزّحاف، لأنّه لما هبطت درجته عن تلك الرّبوة العالية، دخلته الآفة من كلّ ناحية.
قال: فإن قيل: إن النّظم قد سبق العروض بالذّوق، والذّوق طباعي، قيل في الجواب: الذّوق وإن كان طباعيّا فإنه مخدوم الفكر، والفكر مفتاح الصّنائع البشريّة، كما أنّ الإلهام مستخدم للفكر، والإلهام مفتاح الأمور الإلهيّة.
قال: ومن شرف النّثر أيضا أنّه مبرّأ من التكلّف، منزّه عن الضّرورة، غنيّ عن الاعتذار والافتقار، والتقديم والتأخير، والحذف والتكرير، وما هو أكثر من هذا مما