قراءة الكتب الكبار ذوات الورق الكثير، مع العناء المتّصل في الدرس والتصحيح والنّصب في المسألة والجواب، والتنقير عن الحق والصواب.
وهذا الذي قاله ابن يعيش ليس بحيف ولا خارج عن حومة الحق، وإن كان الأمر فيه أيضا صعبا وشاقا وهائلا وعاملا، ولكن ليس لكلّ أحد هذه القوّة الفائضة، وهذه الخصوصيّة الناهضة، وهذا الاستبصار الحسن، وهذا الطبع الوقّاد، والذهن المنقاد، والقريحة الصافية والاستبانة والتأمّل، لأن هذه القوّة إلهيّة، فإن لم تكن إلهيّة فهي ملكية، وإن لم تكن ملكية فهي في أفق البشريّة، وليس يوجد صاحب هذا النعت إلّا في الشاذّ النادر، وفي دهر مديد بين أمّة جمّة العدد، والفائق من كلّ شيء والبائن من كلّ صنف عزيز في هذا العالم الوحشيّ، كما أن الرديء والفاسد معدوم في هذا العالم الإلهيّ، ويمكن أن يقال بالمثل الأدنى: إن من يتكلّم بالإعراب والصحّة ولا يلحن ولا يخطئ ويجري على السليقة الحميدة والضريبة السليمة، قليل أو عزيز، وإنّ الحاجة شديدة لمن عدم هذه السجيّة وهذا المنشأ إلى أن يتعلّم النحو ويقف على أحكامه، ويجري على منهاجه، ويفي بشروطه في أسماء العرب وأفعالها وحروفها وموضوعاتها ومستعملاتها ومهملاتها، ومتى اتفق إنسان بهذه الحلية وعلى هذا النّجار، فلعمري إنّه غنيّ عن تطويل النحويّين كما يستغني قارض الشّعر بالطبع عن علم العروض، وهكذا يستغني صاحب تلك القوّة التي أشار إليها ابن يعيش عن ذلك، ولكن أين ذاك الفرد والشاذّ والنادر؟ فإن حضر فما تفعل معه إلّا أن تقلّده وتأخذ عنه وتتّبعه.
وإنّما المدار على أن تكون أنت بهذا الكمال حائزا لهذه الغاية، ولا سبيل لك إليها من تلقاء نفسك، وإنما هو شيء يأتي من تلقاء غيرك، فإذن بالضرورة وبالواجب ينبغي أن تخطو على آثار المنطقيّين والطبيعيّن والمهندسين بالزحف والعناء والتكلّف والدّءوب حتى تصير متشبّها بذلك الرجل الفاضل والواحد الكامل والبديع النادر، فقد بان من هذا القدر صواب ما أشار إليه ابن يعيش وانكشف أيضا وجه ما حثّ عليه مخالفوه، ولا عيب على المنقوص أن يطلب الزيادة ببذل المجهود، وإن الكامل مربوط بما منح من العطيّة من غير طلب.
وأمّا قوله في صدر كلامه:«إن القوم صدّوا عن الطريق وطرحوا الشوك فيه، واتّخذوا نشر الحكمة فخّا للمثالة العاجلة» ، فما أبعد، بل قارب الحقّ فإن «متّى» كان يملي ورقة بدرهم مقتدريّ وهو سكران لا يعقل، ويتهكّم، وعنده أنّه في ربح، وهو من الأخسرين أعمالا، الأسفلين أحوالا.
ثم إنّي أيّها الشيخ- أحياك الله لأهل العلم وأحيى بك طالبيه- ذكرت للوزير مناظرة جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بين أبي سعيد السيرافيّ وأبي بشر متّى واختصرتها.