فقال لي: اكتب هذه المناظرة على التمام فإنّ شيئا يجري في ذلك المجلس النبيه بين هذين الشيخين بحضرة أولئك الأعلام ينبغي أن يغتنم سماعه، وتوعى فوائده، ولا يتهاون بشيء منه.
فكتبت: حدّثني أبو سعيد بلمع من هذه القصّة. فأما علي بن عيسى الشيخ الصالح فإنّه رواها مشروحة.
لما انعقد المجلس سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة، قال الوزير ابن الفرات للجماعة- وفيهم الخالديّ وابن الأخشاد والكتبيّ وابن أبي بشر وابن رباح بن كعب وأبو عمرو قدامة بن جعفر والزهريّ وعلي بن عيسى الجرّاح وابن فراس وابن رشيد وابن عبد العزيز الهاشمي وابن يحيى العلويّ ورسول ابن طغج من مصر والمرزبانيّ صاحب آل سامان-: ألا ينتدب منكم إنسان لمناظرة متّى في حديث المنطق، فإنه يقول: لا سبيل إلى معرفة الحقّ من الباطل والصدق من الكذب والخير من الشرّ والحجّة من الشبهة والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق وملكناه من القيام به، واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده، فاطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه.
فأحجم القوم وأطرقوا. قال ابن الفرات: والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما يذهب إليه وإني لأعدّكم في العلم بحارا، وللدّين وأهله أنصارا، وللحق وطلّابه منارا، فما هذا الترامز والتغامز اللّذان تجلّون عنهما؟ فرفع أبو سعيد السيرافيّ رأسه فقال: اعذر أيّها الوزير، فإن العلم المصون في الصدر غير العلم المعروض في هذا المجلس على الأسماع المصيخة والعيون المحدقة والعقول الحادّة والألباب الناقدة، لأن هذا يستصحب الهيبة، والهيبة مكسرة، ويجتلب الحياء، والحياء مغلبة، وليس البراز في معركة خاصّة كالمصاع في بقعة عامّة.
فقال ابن الفرات: أنت لها أبا سعيد، فاعتذارك عن غيرك يوجب عليك الانتصار لنفسك، والانتصار في نفسك راجع إلى الجماعة بفضلك. فقال أبو سعيد: مخالفة الوزير فيما رسمه هجنة، والاحتجاز عن رأيه إخلاد إلى التقصير، ونعوذ بالله من زلّة القدم، وإياه نسأل حسن المعونة في الحرب والسّلم.
ثم واجه متّى فقال: حدّثني عن المنطق ما تعني به؟ فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه وردّ خطئه على سنن مرضيّ وطريقة معروفة.
قال متّى: أعني به أنّه آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان، فإنّي أعرف به الرّجحان من النقصان، والشائل من الجانح.
فقال أبو سعيد: أخطأت، لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف والإعراب المعروف إذا كنّا نتكلّم بالعربيّة، وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعقل إذا كنّا نبحث بالعقل، وهبك عرفت الراجح من الناقص من طريق الوزن، فمن لك