للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلمّا وصل إليه ذلك الرّسم- وهو مائة دينار- وحاجته ماسّة إلى رغيف، وحوله وقوّته قد عجزا عن أجرة مسكنه، وعن وجه غدائه وعشائه عاش.

وممّا زاد في حديث الرسم أنّه وصل إليه مع العذر الجميل، والوعد العريض الطويل، ولو رأيته وهو يترفّل ويتحنّك لعجبت.

فقال: سررتني لسروره بما كان منّي، وإن عشت كففت الزمان عن ضيمه، وفللت عنه حدّ نابه، ولولا الضّمانة «١» مانعة عن نفسه، ومتمنّع معها بنفسه، لغشي هذا المجلس فيكم فاستأنس وآنس، ولكنّه على حال لا محتمل له عليها، ولا صبر عليه معها، أتحفظ ما قال البديهيّ فيه؟ قلت: نعم، قال: أنشدنيه، فرويت:

أبو سليمان عالم فطن ... ما هو في علمه بمنتقص

لكن تطيّرت عند رؤيته ... من عور موحش ومن برص

وبابنه مثل ما بوالده ... وهذه قصّة من القصص

فقال: قاتله الله، فلقد أوجع وبالغ، ولم يحفظ ذمام العلم، ولم يقض حق الفتوّة. حدّثني عن درجته في العلم والحكمة، وعرّفني محلّه فيهما من محلّ أصحابنا ابن زرعة وابن الخمار وابن السمح والقومسي ومسكويه ونظيف ويحيى بن عدي وعيسى بن عليّ.

فقلت: وصف هؤلاء أمر متعذّر، وباب من الكلفة شاقّ، وليس مثلي من جسر عليه، وبلغ الصواب منه، وإنما يصفهم من نال درجة كلّ واحد منهم، وأشرف بعد ذلك عليهم، فعرف حاصلهم وغائبهم، وموجودهم ومفقودهم.

فقال: هذا تحايل لا أرضاه لك، ولا أسلمه في يدك، ولا أحتمله منك، ولم أطلب إليك أن تعرّفهم بما هو معلوم الله منهم، وموهبه لهم، ومسوقه إليهم، ومخلوعه عليهم، على الحدّ الذي لا مزيد فيه ولا نقص، إنما أردت أن تذكر من كلّ واحد ما لاح منه لعينيك، وتجلّى لبصيرتك، وصار له به صورة في نفسك، فأكثر وصف الواصفين للأشياء على هذا يجري، وإلى هذا القدر ينتهي.

فقلت: إذا قنع مني بهذا، فإني أخدم بما عندي، وأبلغ فيه أقصى جهدي. أما شيخنا أبو سليمان فإنه أدقّهم نظرا، وأقعرهم غوصا، وأصفاهم فكرا، وأظفرهم بالدّرر، وأوقفهم على الغرر، مع تقطع في العبارة، ولكنة ناشئة من العجمة وقلّة نظر في الكتب، وفرط استبداد بالخاطر، وحسن استنباط للعويص، وجرأة على تفسير الرمز، وبخل بما عنده من هذا الكنز.

<<  <   >  >>