للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأما ابن زرعة فهو حسن الترجمة، صحيح النقل، كثير الرجوع إلى الكتب، محمود النقل إلى العربيّة، جيّد الوفاء بكلّ ما جلّ من الفلسفة، ليس له في دقيقها منفذ، ولا له من لغزها مأخذ، ولولا توزّع فكره في التجارة، ومحبّته في الربح، وحرصه على الجمع، وشدّته على المنع، لكانت قريحته تستجيب له، وغائمته تدرّ عليه، ولكنّه مبدّد مندّد، وحبّ الدنيا يعمي ويصمّ.

وأمّا ابن الخمار ففصيح، سبط الكلام، مديد النّفس، طويل العنان مرضيّ النقل، كثير التدقيق، لكنه يخلط الدّرّة بالبعرة ويفسد السمين بالغثّ، ويرقع الجديد بالرّثّ، ويشين جميع ذلك بالزّهو والصّلف ويزيد في الرقم والسّوم، فما يجديه من الفضل يرتجعه بالنقص، وما يعطيه باللّطف يستردّه بالعنف، وما يصفيه بالصواب، يكدّره بالإعجاب. ومع هذا يصرع في كل شهر مرّة أو مرّتين.

وأمّا ابن السمح، فلا ينزل بفنائهم، ولا يسقى من إنائهم، لأنه دونهم في الحفظ والنقل والنظر والجدل، وهو بالمتّبع أشبه، وإلى طريقة الدعيّ أقرب، والذي يحطّه عن مراتبهم شيئان: أحدهما بلادة فهمه، والآخر حرصه على كسبه، فهو مستفرّغ محّ «١» البال مأسور العقل، يأخذ الدانق والقيراط والحبّة والطّسّوج والفلسف بالصروف والوزن والتطفيف، والقلب متى لم ينقّ من دنس الدنيا لم يعبق بفوائح الحكمة، ولم يتضرّج بردع الفلسفة، ولم يقبل شعاع الأخلاق الطاهرة المفضية إلى سعادة الآخرة.

وأما القومسيّ أبو بكر، فهو رجل حسن البلاغة، حلو الكناية، كثير الفقر العجيبة، جمّاعة للكتب الغريبة، محمود العناية في التصحيح والإصلاح والقراءة، كثير التردّد في الدراسة، إلّا أنّه غير نصيح في الحكمة، لأنّ قريحته ترابيّة، وفكرته سحابيّة، فهو كالمقلّد بين المحققين، والتابع للمتقدّمين، مع حبّ للدنيا شديد، وحسد لأهل الفضل عتيد.

وأما مسكويه، ففقير بين أغنياء، وعييّ بين أبيناء، لأنّه شاد، وأنا أعطيته في هذه الأيّام (صفو الشرح لإيساغوجي) وقاطيغورياس، من تصنيف صديقنا بالرّيّ.

قال: ومن هو؟ قلت: أبو القاسم الكاتب غلام أبي الحسن العامريّ، وصحّحه معي، وهو الآن لائذ بابن الخمار، وربما شاهد أبا سليمان وليس له فراغ، ولكنه محسّ في هذا الوقت للحسرة التي لحقته فيما فاته من قبل.

فقال: يا عجبا لرجل صحب ابن العميد أبا الفضل ورأى من كان عنده وهذا حظّه! قلت: قد كان هذا، ولكنّه كان مشغولا بطلب الكيمياء مع أبي الطيّب الكيمائيّ الرازيّ، مملوك الهمّة في طلبه والحرص على إصابته مفتونا بكتب أبي زكرياء،

<<  <   >  >>